الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

قوله تعالى : { مِن ذُرِّيَّتِي } : يجوزُ أَنْ يكون المفعولُ محذوفاً ، وهذا الجارُّ صفتُه ، أي : أسكنْتُ ذريةً مِنْ ذريتي . ويجوز أن تكونَ " مِنْ " مزيدةً عند الأخفش .

قوله : " بوادٍ " ، أي : في وادٍ ، نحو : هو بمكة .

قوله : { عِندَ بَيْتِكَ } يجوز أن يكونَ صفةً ل " وادٍ " . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ بدلاً منه " ، يعني أنه يكونُ بدلَ بعضٍ مِنْ كُلّ ، لأنَّ الواديَ أعمُّ مِنْ حضرةِ البيت . وفيه نظرٌ ، من حيث إنَّ " عند " لا تتصرَّف .

قوله : " ليُقِيموا " يجوز أَنْ تكونَ هذه اللامُ لامَ أمرٍ ، وأن تكونَ لامَ علَّة . وفي متعلقها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أنها متعلقةٌ بأَسْكنْتُ وهو ظاهرٌ ، ويكون النداءُ معترضاً . الثاني : أنها متعلقةٌ باجْنُبْني ، أي : اجْنُبْهم الأصْنامَ ليُقِيموا ، وفيه بُعْدٌ .

قوله : { أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ } العامَّةُ على " أفْئِدة " جمع " فُؤاد " كغُراب وأَغْربة . وقرأ هشام عن ابن عامر بياءٍ بعد الهمزة ، فقيل : إشباع ، كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يُحِبَّك عَظْمٌ في الترابِ تَرِيْبُ

أي : تَرِب ، وكقوله :

أعوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ *** الشائلاتِ عُقدَ الأَذْنابِ

وقد طعن جماعةٌ على هذه القراءةِ وقالوا : الإِشباعُ من ضرائرِ الشعر فكيف يُجْعَلُ في أفصحِ كلامٍ ؟ وزعم بعضُهم أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيلِ الهمزةِ بين بين ، فظنَّها الراوي زيادةَ ياءٍ بعد الهمزة ، قال : " كما تُوُهِّم عن أبي عمروٍ واختلاسُه في " بارئكم " و " يَأْمُركم " أنه سَكَّن " . وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ الرواةَ أجلُّ من هذا .

وقرأ زيدٌ بن عليّ " إفادة " بزنةِ " رِفادة " ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ مصدراً لأِفاد كأَقام إقامةً ، أي : ذوي إفادةٍ ، وهم الناسُ الذين يُنْتَفَعُ بهم . والثاني : أن يكون أصلُها " وِفادة " فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً نحو : إشاح وإعاء .

وقرأت أمُّ الهيثم " أَفْوِدَة " بواوٍ مكسورة ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ جمع " فُوَاد " المُسَهًّل : وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها يَطَّرِد قَلْبُها واواً نحو : جُوَن ، ففُعِل في " فُؤاد " المفرد ذلك ، فأُقِرَّت في الجمع على حالها . والثاني : قال صاحب " اللوامح " : " هي جمعُ وَفْد " . قلت : فكان ينبغي أن يكونَ اللفظ " أَوْفِدة " بتقديم الواو ، إلا أن يُقال : إنه جَمَعَ " وَفْداً " على " أَوْفِدَة " ثم قلَبه فوزنه أَعْفِلَة ، كقولهم : آرام في أرْآم وبابِه ، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أفْعِلة نحو : نَجْد وأَنْجدة ، وَوَهْي وأَوْهِيَة . وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ من اللغة .

وقُرِىء " آفِدَة " بزِنَةِ ضارِبة ، وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ مقلوبةً مِنْ أَفئدة بتقديم الهمزة على الفاء فَقُلِبَتْ الهمزةُ ألفاً ، فوزنها أَعْفِلة كآرام في أرْآم .

والثاني : أنها اسمُ فاعلٍ مِنْ أَفِد يَأْفَدُ ، أي : قَرُب ودَنا ، والمعنى : جماعة آفِدَة ، أو جماعات آفِدة .

وقُرِئ " آفِدَة " بالقَصْرِ ، وفيها وجهان أيضاً ، أحدُهما : أن يكونَ اسمَ فاعلٍ على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح . [ والثاني ] : أن تكونَ محففةً من " أَفْئِدة " . بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها ، وحَذْفِ الهمزةِ .

و " من الناس " في " مِنْ " وجهان ، أحدُهما : أنها لابتداءِ الغاية . قال الزمخشريُّ : " ويجوز أن تكونَ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ كقولك : " القلبُ مني سقيم " تريد : قلبي ، كأنه قيل : أفئدةَ ناسٍ ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا التمثيلِ لتنكيرِ " أَفْئدة " لأنها في الآية نكرةٌ ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ " . قال الشيخ : " ولا يَظْهر كونُها للغايةِ ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ ينتهي إليها ، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس " .

والثاني : أنها للتبعيضِ ، وفي التفسير : لو لم يقل " من الناس " لحجَّ الناسُ كلُّهم .

قوله : " تَهْوي " هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل . والعامَّة " تَهْوِي " بكسرِ العين بمعنى : تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم . قال :

وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه *** يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ

وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام ، كقوله :

حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها *** طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ

وإنَّما عُدِّي ب " إلى " لأنه ضُمِّنَ معنى " تميل " ، كقوله :

تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى *** ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها

وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو ، وفيه قولان ، أحدُهما : أنَّ " إلى " زائدةٌ ، أي : تهواهم . والثاني : أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل ، ومصدرُ الأول على " هُوِيّ " ، كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل

والثاني على " هَوَى " . وقال أبو البقاء : " معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه ، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل " .

وقرأ مسلمة بن عبد الله : " تُهْوَى " بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ " أهوى " المنقول مِنْ " هَوِيَ " اللازمِ ، أي : يُسْرَع بها إلى إليهم .