قوله : { رَّبَّنَا إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف ، أي : أسكنت ذرية من ذريتي ، ويجوز أن تكون " مِنْ " مزيدة عند الأخفش .
" بوَادٍ " أي : في وادٍ ، وهو مكّة ؛ لأن مكَّة وادٍ بين جبلين .
وقوله : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } كقوله { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] .
قوله : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } يجوز أن تكون صفة ل " وَادٍ " .
وقال أبو البقاء{[19312]} : يجوز أن يكون بدلاً منه ، يعني أنَّه يكون بدل بعض من كل ؛ لأنَّ الوادي أعم من حضرة البيت .
وفيه نظرٌ ، من حيث أن " عِنْدَ " لا يتصرف .
سماه محرّماً ؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
وقيل : لأنَّ الله حرم التعرض له ، والتهاون به . قيل : لأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبَّار كالشيء المُحرَّم الذي يجب أن يجتنب .
وقيل : لأنه حُرِّمَ من الطوفان ، أي : منع منه ، كما يسمى عتيقاً ؛ لأنه أعْتِقَ من الطوفان وقيل : لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السماوات ، والأرض وحفَّ بسبعة من الملائكةِ وجعل مثل البيت المعمور الذي بناه آدم -صلوات الله وسلامه عليه- فرفع إلى السَّماءِ .
وقيل : إنَّ الله حرَّم على عباده أن يقربوه الدماء ، والأقذار وغيرها .
قوله : " لِيُقِيمُوا " : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر ، وأن تكون لام علة ، وفي متعلقها حينئذ [ وجهان ]{[19313]} :
أحدهما : أنها متعلقة ب " أسْكَنْتُ " وهو ظاهر ، ويكون النداء معترضاً .
الثاني : أنَّها متعلقة ب " اجْنُبْنِي " أي : أجنبهم الأصنام . ليقيموا . وفيه بعد .
قوله : { اجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } العامة على : " أفْئِدةً " جمع فؤاد ، ك " غُرَاب وأغْرِبَة " وقرأ هشام عن ابن{[19314]} عامر بياء بعد الهمزة ، فقيل : إشباع ؛ كقوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يُحِبَّكَ عَظْمٌ فِي التُّرابِ تَرِيبُ{[19315]}
أعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرَابِ *** الشَّائلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ{[19316]}
وقد طعن جماعة على هذه القراءة ، وقالوا : الإشباعُ من ضرائر الشعر ، فكيف يجعل في أفصح الكلام ؟ .
وزعم بعضهم : أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [ أنها زائدة ]{[19317]} ياء بعد الهمزة ، قال : كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في : " بَارِئكُمْ " ، و " يَأمُرُكمْ " أنه سكن .
وهذا ليس بشيءٍ ، فإنَّ الرُّواة أجلُّ من هذا .
وقرأ زيد{[19318]} بنُ عليِّ : " إفادة " بزنة " رِفادة " ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون مصدراً ل " أفَادَ " ك " أقَامَ إقَامَة " أي : ذوي إفادَةِ ، وهم النَّاس الذين ينتفع بهم .
والثاني : أن يكون أصلها : " وفَادة " فأبدلت الواو همزة ، نحو إشاح وإعَاء .
وقرأت أم الهيثم{[19319]} : " أفْوِدَة " بكسر الواو وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون جمع : " فُؤاد " المُسَهَّل وذلك أنَّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قبلها واواً ، نحو " جُون " ففعل في : " فُؤاد " المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها .
والثاني : قال صاحب اللَّوامح -رحمه الله- : هي جمع " وَفْد " .
قال شهاب الدين{[19320]} : " فكان ينبغي أن يكون اللفظ " أوْفِدَة " بتقديم الواو ؛ إلا أن يقال : إنه جمع " وَفْداً " على " أوْفِدَة " ، ثم قبله فوزنه " أعْفِلَة " كقولهم : آرام " في " أرْآم " وبابه ، إلاَّ أنَّه يقل جمع " فَعْل " على " أفْعِلَة " نحو : " نَجْد وأنْجِدَة " و " وَهْي وأوْهِيَة " وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغةِ .
وقرئ{[19321]} : " آفِدة " بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مقلوبة من " أَفْئِدَة " بتقديم الهمزة على الفاء ، فقلبت الهمزة ألفاً فوزنه : " أعْفِلَة " ك " آرام " في " أرآم " .
والثَّاني : أنها اسم فاعل : من " أَفَدَ يَافَدُ " ، أي : " قَرُبَ ودَنَا " . المعنى : جماعةٌ آفدة أو جماعات آفدة .
وقرئ : " أَفِدَة " {[19322]} بالقصر ، وفيها وجهان أيضاً :
أحدهما : أن تكون اسم فاعل على " فَعِل " ك " فَرِح فهو فَرِحٌ " ، وأن تكون مخففة من " أفْئِدَة " بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحذف الهمزة .
و " مِنْ " في " مِنَ النَّاسِ " فيها وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية . قال الزمخشريُّ : " ويجوز أن يكون " مِن " الابتداء الغاية ، كقولك : القلبُ منِّي سقيمٌ ، تريد : قَلْبي ، كأنه قال : أفْئدةُ ناسٍ ، وإنَّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل ، لتنكير " أفْئِدَة " لأنَّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة " .
قال أبو حيَّان{[19323]} : " ولا ينظر كونها للغاية ؛ لأنَّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إليها ، إذ لا يصح جعل ابتداء الأفئدة من الناس " .
والثاني : أنها للتبعيض ، وفي التفسير : لو لم يقل من النَّاس لحج النَّاس كلهم .
قوله : " تَهْوِي " هذا هو المفعول الثاني للجعل ، والعامة على : " تَهْوِي " بكسر العين ، بمعنى تسرع وتطير شوقاً إليه ؛ قال : [ الكامل ]
وإذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأيْتَهُ *** يَهْوِى مَخَارِمَها هُويَّ الأجْدلِ{[19324]}
وأصله أن يتعدى باللام ، كقوله : [ البسيط ]
حتَّى إذَا ما هَوتْ كفُّ الوَليدِ بِهَا *** طَارتْ وفِي كفِّه مِنْ رِشهَا بِتَكُ
وإنَّما عدي بإلى ؛ لأ ، ه ضمن معنى تميلُ ، كقوله : [ السريع ]
يَهْوِي إلى مكَّة يَبْغِي الهُدَى *** ما مُؤمِنُ الجِن ككُفَّارِهَا
وقرأ أمير المؤمنين علي ، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، ومجاهدٌ رضي الله عنهم بفتح الواو ، وفيه قولان :
أحدهما : أن " إلى " زائدة ، أي : تهواهم .
والثاني : أنه ضمن معنى تنزع وتميل ، ومصدر الأول على " هُوّى " ؛ كقوله : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَهْوِي مَخارِمَها هُوي الأجْدلِ{[19325]}
وأصله أن يتعدى باللام ، كقوله : [ البسيط ] .
حتى إذا ما هوت كف الوليد بها *** طارت وفي كفه من ريشها بتكُ{[19326]}
وإنما عدي بإلى ؛ لأنه ضمن معنى تميل ، كقوله : [ السريع ] .
يهوي إلى مكة يبغي الهدى *** ما مؤمن الجن ككفارها{[19327]}
وقرأ أمير المؤمنين علي{[19328]} ، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، ومجاهد – رضي الله عنهم – بفتح الواو ، وفيه قولان :
أحدهما : أن " إلى " زائدة ، أي : تهواهم .
والثاني : أنه ضمن معنى تنزع وتميل ، ومصدر الأول على " هُوًى " ؛ كقوله : [ الكامل ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يهوي مخارمها هُوي الأجدل{[19329]}
وقال أبو البقاء{[19330]} : " معناهما متقاربان ، إلا أنَّ " هوى " - يعني بفتح الواو - متعد بنفسه ، وإنَّما عدِّي ب : " إلَى " حملاً على تميلُ " .
وقرأ مسلمة{[19331]} بن عبد الله : " تُهْوى " بضم التاءِ ، وفتح الواو مبنياً للمفعول ، من " أهْوى " المنقول من " هَوَى " اللازم ، أي : يسرع بها إليهم .
قال المفسرون : قوله { أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } أدخل " مِنْ " للتبعيض ، والمعنى : أسكنت من ذريتي ولداً : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } وهو مكة ؛ لأنَّ مكَّة وادٍ بين جبلين : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } .
روي عن ابن عبَّاسٍ ، -رضي الله عنهما- : أول ما أتَّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل -صلوات الله وسلامه عليه- اتخذت منطلقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت ، وليس بمكَّة يومئذ أحد ، وليس فيها ماء ، ووضع عندها إناء فيه تمرٌ ، وسقاء فيه ماء ثمَّ قال إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- منطلقاً ، فتبعته هاجر ، فقالت : يا إبراهيم إلى من تكلنا ؟ فقال -صلوات الله وسلامه عليه- إلى الله ، فقالت له : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثمَّ رجعت ، فانطلق إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- حتَّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثمَّ دعا الله بقوله : { رَّبَّنَا إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } الآية ثمَّ إنها عطشت وعطش الصبي ؛ فجعل يتلوى ، وهي تنظر إليه ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثمَّ استقبلت الوادي تنظر أحداً ، فلم تر أحداً ، وهبطت من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثمَّ سمعت سعي المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقالت عليها ونظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهمَا " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً ، فقالت : صه ! تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ؛ فضرب بعقبه حتَّى ظهر الماء ، أو قال : فضرب بجناحه فغارت عينها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَحِمَ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَولا أنَّها عَجلتْ لكَانَتْ زَمْزمُ عَيْناً مَعيناً " {[19332]} .
ثمَّ إنَّ إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- عاد بعد كبر إسماعيل ، وأقرَّا هو وإسماعيل قواعد البيت .
قال القاضي{[19333]} : " أكثر الأمور المذكورة في هذه القصَّة بعيدة ؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا : إنَّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام " .
وقوله : { مِن ذُرِّيَّتِي } ، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه .
{ لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } قال المفسرون : جمع ، وقد تهوى : تحن وتشتاقُ إليهم . قال السدي : معناه : وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع{[19334]} .
قال مجاهدٌ : لو قال : أفئدة النَّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند{[19335]} .
وقال سعيد بن جبير : لحجَّتِ اليهود ، والمجوس ، ولكنه قال : { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } فهم المسلمون{[19336]} .
{ ارزقهم مِّنَ الثمرات } ممَّا رزقت سكان القرى ذوات الماء : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } وذلك يدل على أن المقصود من منافع الدنيا : أن يتفرغ لأداء العبادات .