قوله تعالى : { الذين يؤمنون } موضع الذين خفض نعتاً للمتقين . يؤمنون : يصدقون ويترك الهمزة أبو عمرو وورش ، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن ، إلا أحرفاً معدودة . وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، قال الله تعالى : " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق لنا ، وهو في الشريعة : الاعتقاد بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، فسمي الإقرار والعمل إيماناً ، لوجه من المناسبة ، لأنه من شرائعه : والإسلام : هو الخضوع والانقياد ، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً ، إذا لم يكن معه تصديق ، قال الله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن ، ويكون مصدقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر . وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام ، وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد التوبة الزراد البخاري : أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، ثنا أبو أحمد عيسى ، بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر ، يعني بالبصرة ، معبد الجهني ، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه ما يقول هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر ، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه ، يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أفق قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء ، والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره . ثم قال : حدثنا عمر بن الخطاب قال : " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، ما يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبته تمس ركبته فقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، فقال : صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه . ثم قال : فما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وحده . وملائكته وكتبه ورسله ، وبالبعث بعد الموت والجنة والنار ، وبالقدر خيره وشره فقال : صدقت . ثم قال : فما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال : صدقت ثم قال : فأخبرني عن الساعة ؟ فقال : ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل ، قال : صدقت قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال : صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمر هل تدري من الرجل ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه " .
قال الفراء : فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث اسماً لما ظهر من الأعمال ، والإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد ، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان ، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام ، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد ، وجماعها الدين ، ولذلك قال : ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ؛ والدليل على أن الأعمال من الإيمان ، ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاة ، ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ، ثنا بشر بن موسى ، ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " .
قيل : الإيمان مأخوذ من الأمان ، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله ، والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه .
قوله تعالى : { بالغيب } . والغيب مصدر وضع موضع الاسم ، فقيل للغائب غيب كما قيل للعادل عدل وللزائر زور ، والغيب ما كان مغيباً عن العيون ، قال ابن عباس : الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به ، فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان ؛ وقيل الغيب هاهنا : هو الله تعالى ، وقيل : القرآن ، وقال الحسن : بالآخرة وقال زر بن حبيش وابن جريح : بالوحي . نظيره أعنده علم الغيب وقال ابن كيسان : بالقدر . وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ آلم ذلك الكتاب إلى قوله المفلحون . قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ، وورش يؤمنون بترك الهمزة ، وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة ، إلا في أنبئهم ونبئهم ونبئنا ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم ، نحو نبئهم وأنبئهم وتسؤهم وتسؤكم وإن نشأ وننسأها ونحوها . أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى ، نحو مؤصدة ورئياً ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل ، إلا تؤوي وتؤويه ولا يترك من عين الفعل إلا الرؤيا وبابه ، إلا ما كان على وزن فعل .
قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها ، وأركانها وهيئاتها ، يقال : قام بالأمر ، وأقام الأمر ، إذا أتى به معطيا حقوقه ، أو المراد بها الصلوات الخمس ، ذكر بلفظ الواحد ، كقوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) يعني الكتب .
والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : ( فصل عليهم ) أي ادع لهم ، وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء . وقيل في قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) الآية إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن المؤمنين : الدعاء .
قوله تعالى : { ومما رزقناهم } أي أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد ، وأصله في اللغة الحظ والنصيب .
{ ينفقون } يتصدقون ، قال قتادة : ينفقون في سبيل الله وطاعته . وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد والملك ، ومنه نفاق السوق ، لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد ، ومنه : نفقت الدابة إذا أخرجت روحها . فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب .
{ الذين يؤمنون بالغيب } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك مالا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية ، والتصوير على التصقيل أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالبا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } . وقوله عليه الصلاة والسلام : " الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام " . أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين . وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى . أو على أنه مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين . وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى ، فيكون الوقف على المتقين تاما . والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن ، كأن المصدق أمن من المصدق التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه ، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب .
وأما في الشرع : فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، ومجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج . فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فكافر ، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } ، { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، { ولم تؤمن قلوبهم } ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ، وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية ، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقا . ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه ، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر ، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه . والغيب مصدر ، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيبا ، أو فيعل خفف كقيل ، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل ، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وقسم نصب موقع عليه دليل : كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية ، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به . وإن جعلته حالا على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء . والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا { لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } . أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية . وقيل المراد بالغيب : القلب لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . فالباء عل الأول للتعدية وعلى الثاني للمصاحبة . وعلى الثالث للآلة . { ويقيمون الصلاة } أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال :
أقامت غزالة سوق الضراب *** لأهل العراقين حولا قميطا
فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه ، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه ، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد ، وضده قعد عن الأمر ، وتقاعد . أو يؤدونها .
عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح . والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيد ، لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن ، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى ، لا { المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون } ، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة ، وفي معرض الذم فويل للمصلين ، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى ، كتبتا بالواو على لفظ المفخم ، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء .
وقيل : أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد . { ومما رزقناهم ينفقون } الرزق في اللغة : الحظ قال تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } . والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه .
وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا الحرام ليس برزق ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال المطلق . فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح ، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق ، والذم لتحريم ما لم يحرم . واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة . وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة : " لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " . وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا ، وليس كذلك لقوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } .
وأنفق الشيء وأنفده أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج ، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل . ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها . وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي ، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه . ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إن علما لا يقال به ، ككنز لا ينفق منه " . وإليه ذهب من قال ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون .