وقوله : ( الذِينَ يُومِنُونَ بِالْغَيْبِ ) الآية( {[595]} ) [ 2 ] .
" الذين " : اسم مبهم ناقص لابد له من صلة وعائد ، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف ، ولأنه بعض اسم ، فإن ثَنَّيْتَهُ( {[596]} ) أَعْربتَه ، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف( {[597]} ) إذ الحروف( {[598]} ) لا تثنى .
فإن قيل : فأعربه في الجمع إذ الحروف لا( {[599]} ) تجمع( {[600]} ) .
فالجواب : إن الجمع مشبه بالواحد ، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد ، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد ، فجرى مجرى الواحد في البناء ، والتثنية لا تختلف أبنيتها ، ولا يقع إعرابها في آخرها ، فخالفت الواحد والجمع فأعربت ، هذه لغة القرآن وأكثر كلام العرب .
ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع " أَلَّذُون " فهؤلاء أعربوا الجمع إذ( {[601]} ) الحروف لا تجمع ، وأصل " الذي " تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في " عم " و " قاض " في الرفع والخفض . فلما دخلته( {[602]} ) الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين ، وكتب " الذي " بلام واحدة ، وأصلها لامان ، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال .
وجرى " الذين " في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة/ المتقدمة الذكر ، وكتبت " اللذين " في التثنية بلامين على الأصل ، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء( {[603]} ) إلا على نظام واحد . فلما جرت على أصلها ، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط . وأصل الإيمان : التصديق( {[604]} ) ، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه ، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه ، فالله جل ذكره مؤمن ، ولا يقال : بكذا ، والعبد مؤمن بكذا .
وقد قيل : إن المؤمن مأخوذ من الأمان( {[605]} ) ، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب( {[606]} ) الله بإيمانه . والله مُؤَمِّن : أي : يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه .
والهمز في " يؤمن " الأصل ، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن فصيح( {[607]} ) .
والغيب : كل ما استتر عنك( {[608]} ) . وهو في هذه الآية البعث ، والحساب ، والجنة ، والنار ، وشبهه . قاله سفيان( {[609]} ) وغيره( {[610]} ) .
وقيل : معنى ( بِالْغَيْبِ ) : بالقدر( {[611]} ) .
وقال عطاء : " ( بِالْغَيْبِ ) : بالله جل ذكره( {[612]} ) " . وقيل : بالقرآن . وقال بعض المتصوفة : " الغيب : القلب ، أي يؤمنون بقلوبهم( {[613]} ) ، لأن المنافق( {[614]} ) يؤمن بلسانه لا بقلبه " ( {[615]} ) .
فالإيمان الصحيح/ النافع ما اعتقده القلب .
وقال بعض العلماء : ( يُومِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، أي : يؤمنون إذا غابوا عن الناس ، كما يؤمنون إذا حضروا ، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة ، ويكفر بالغيب( {[616]} ) .
وقوله : ( وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ) [ 2 ] .
معناه يديمون أداءها/ بفروضها في أوقاتها .
وقال الضحاك : " إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها " ( {[617]} ) .
وأصل " يُقيمُونَ " ، " يُقْوِمُونَ " على وزن " يُفْعِلُونَ " فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها( {[618]} ) . / كما قالوا : ميزانٌ وميعادٌ ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ . وأصل الصلاة في اللغة : الدعاء ، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها( {[619]} ) . والعرب تسمي الشيء باسم( {[620]} ) [ ما لابَسَه وقاربه ]( {[621]} ) .
والصلاة من الله : الرحمة لعباده( {[622]} ) ، ومن الملائكة . والأنبياء : الدعاء ، وكذلك هي من الناس .
وروى أبو هريرة أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ]( {[623]} ) قال : " إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ ، وإنْ كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ( {[624]} ) " أي : فليدع .
وقال الأعشى( {[625]} ) لا يتعدى لما دعت له في قولها :
. . . . . . . . . " يا ربِّ جَنِّب أَبي( {[626]} ) الأوصَابَ والْوَجَعَا( {[627]} ) .
عليك مثل/الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً( {[628]} ) .
وقيل : إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف ، ينحنيان في الصلاة( {[629]} ) .
/وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها ، لأن أصل الألف الواو ، وأصلها صلوة( {[630]} ) . فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها ، قلبت في اللفظ ألفاً ؛ دليله قولهم في الجمع : " صَلَواتٌ " . وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا : إن أصل " ماء " : مَوْهٌ " وإن الألف بدل من الواو ، والهمزة بدل من الهاء( {[631]} ) . ودل على ذلك قولهم في الجمع : أمْوَاءٌ ، فرد إلى أصله .
وقيل : إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو .
والقول الأول والآخر ، به يعلل ما كتبوه من " الزكاة " و " الحياة " وشبهه بالواو ، فأعلمه . وهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني العرب دون غيرهم ، بدلالة( {[632]} ) قوله بعد ذلك : ( وَالذِينَ يُومِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ) يريد( {[633]} ) من آمن من اليهود والنصارى .
وقيل : [ بل الأربع( {[634]} ) ] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب( {[635]} ) .
وقيل : بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام . إذ( {[636]} ) لم يؤمن [ أحد به( {[637]} ) ] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب( {[638]} ) .
واختار الطبري القول الأول( {[639]} ) .
وقال مجاهد : " أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها( {[640]} ) في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و[ ثلاث عشر ]( {[641]} ) آية بعد ذلك في المنافقين( {[642]} ) " .
وقوله : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) [ 2 ] .
وقيل( {[643]} ) : " هي نفقة الرجل على عياله " . قاله السدي( {[644]} ) .
وأصل " ما " في قوله : ( وَمِمَّا ) أن تكتب منفصلة ، لأنها بمعنى " الذي " . والهاء محذوفة من ( رَزَقْنَاهُمْ ) ، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه( {[645]} ) . فحذفت من صلة " ما " لطول الاسم . فإن كانت " ما( {[646]} ) " بغير معنى " الذي " ، وإنما هي صلة ، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله : ( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ )( {[647]} ) ، ( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ )( {[648]} ) وشبهه . وقد وقعت " ما " متصلة بما قبلها من الجار في الخط ، وهي بمعنى " الذي " ، وأصلها الانفصال ، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد ، وذلك نحو " مما " و " عما " .
وأيضاً فإنه/ لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر ، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار( {[649]} ) بالمجرور مع كثرة الاستعمال .
وقيل : إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ/ لم يثبت في الخط في مواضع وثب في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة ، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ .
واعلم أن " كل ما " ، إذا كانت بمعنى " إذا " و " متى " ، وصلتها مع " ما " ، فإن كانت على غير ذلك فصلتها من " كل " ، تقول : " كلما( {[650]} ) جاءني زيد أكرمني . أي " إذا جاءني زيد " ، فتصل " ما " " بكل " . وتقول " يسرني كل ما يسرك " فتفصل " ما " من " كل " لأنها بمعنى " الذي " . وقد كتبت " بِئْسَمَا " و " نِعْمَا " مَوْصُولَةَ وأصلها أن تفصل " ما " مما قبلها في الخط لأن " ما " اسم ، وليست بصلة/ وكذلك وصلت " حينئذ " و " يومَئِذٍ " .
وأصل " إذا " الانفصال مما قبلها ، لكن وصلت لكثرة الاستعمال والاختصار والإيجاز .