الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

وقوله : ( الذِينَ يُومِنُونَ بِالْغَيْبِ ) الآية( {[595]} ) [ 2 ] .

" الذين " : اسم مبهم ناقص لابد له من صلة وعائد ، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف ، ولأنه بعض اسم ، فإن ثَنَّيْتَهُ( {[596]} ) أَعْربتَه ، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف( {[597]} ) إذ الحروف( {[598]} ) لا تثنى .

فإن قيل : فأعربه في الجمع إذ الحروف لا( {[599]} ) تجمع( {[600]} ) .

فالجواب : إن الجمع مشبه بالواحد ، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد ، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد ، فجرى مجرى الواحد في البناء ، والتثنية لا تختلف أبنيتها ، ولا يقع إعرابها في آخرها ، فخالفت الواحد والجمع فأعربت ، هذه لغة القرآن وأكثر كلام العرب .

ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع " أَلَّذُون " فهؤلاء أعربوا الجمع إذ( {[601]} ) الحروف لا تجمع ، وأصل " الذي " تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في " عم " و " قاض " في الرفع والخفض . فلما دخلته( {[602]} ) الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين ، وكتب " الذي " بلام واحدة ، وأصلها لامان ، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال .

وجرى " الذين " في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة/ المتقدمة الذكر ، وكتبت " اللذين " في التثنية بلامين على الأصل ، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء( {[603]} ) إلا على نظام واحد . فلما جرت على أصلها ، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط . وأصل الإيمان : التصديق( {[604]} ) ، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه ، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه ، فالله جل ذكره مؤمن ، ولا يقال : بكذا ، والعبد مؤمن بكذا .

وقد قيل : إن المؤمن مأخوذ من الأمان( {[605]} ) ، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب( {[606]} ) الله بإيمانه . والله مُؤَمِّن : أي : يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه .

والهمز في " يؤمن " الأصل ، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن فصيح( {[607]} ) .

والغيب : كل ما استتر عنك( {[608]} ) . وهو في هذه الآية البعث ، والحساب ، والجنة ، والنار ، وشبهه . قاله سفيان( {[609]} ) وغيره( {[610]} ) .

وقيل : معنى ( بِالْغَيْبِ ) : بالقدر( {[611]} ) .

وقال عطاء : " ( بِالْغَيْبِ ) : بالله جل ذكره( {[612]} ) " . وقيل : بالقرآن . وقال بعض المتصوفة : " الغيب : القلب ، أي يؤمنون بقلوبهم( {[613]} ) ، لأن المنافق( {[614]} ) يؤمن بلسانه لا بقلبه " ( {[615]} ) .

فالإيمان الصحيح/ النافع ما اعتقده القلب .

وقال بعض العلماء : ( يُومِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، أي : يؤمنون إذا غابوا عن الناس ، كما يؤمنون إذا حضروا ، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة ، ويكفر بالغيب( {[616]} ) .

وقوله : ( وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ) [ 2 ] .

معناه يديمون أداءها/ بفروضها في أوقاتها .

وقال الضحاك : " إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها " ( {[617]} ) .

وأصل " يُقيمُونَ " ، " يُقْوِمُونَ " على وزن " يُفْعِلُونَ " فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها( {[618]} ) . / كما قالوا : ميزانٌ وميعادٌ ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ . وأصل الصلاة في اللغة : الدعاء ، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها( {[619]} ) . والعرب تسمي الشيء باسم( {[620]} ) [ ما لابَسَه وقاربه ]( {[621]} ) .

والصلاة من الله : الرحمة لعباده( {[622]} ) ، ومن الملائكة . والأنبياء : الدعاء ، وكذلك هي من الناس .

وروى أبو هريرة أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ]( {[623]} ) قال : " إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ ، وإنْ كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ( {[624]} ) " أي : فليدع .

وقال الأعشى( {[625]} ) لا يتعدى لما دعت له في قولها :

. . . . . . . . . " يا ربِّ جَنِّب أَبي( {[626]} ) الأوصَابَ والْوَجَعَا( {[627]} ) .

عليك مثل/الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً( {[628]} ) .

أي : دعوت .

وقيل : إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف ، ينحنيان في الصلاة( {[629]} ) .

/وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها ، لأن أصل الألف الواو ، وأصلها صلوة( {[630]} ) . فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها ، قلبت في اللفظ ألفاً ؛ دليله قولهم في الجمع : " صَلَواتٌ " . وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا : إن أصل " ماء " : مَوْهٌ " وإن الألف بدل من الواو ، والهمزة بدل من الهاء( {[631]} ) . ودل على ذلك قولهم في الجمع : أمْوَاءٌ ، فرد إلى أصله .

وقيل : إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو .

والقول الأول والآخر ، به يعلل ما كتبوه من " الزكاة " و " الحياة " وشبهه بالواو ، فأعلمه . وهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني العرب دون غيرهم ، بدلالة( {[632]} ) قوله بعد ذلك : ( وَالذِينَ يُومِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ) يريد( {[633]} ) من آمن من اليهود والنصارى .

وقيل : [ بل الأربع( {[634]} ) ] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب( {[635]} ) .

وقيل : بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام . إذ( {[636]} ) لم يؤمن [ أحد به( {[637]} ) ] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب( {[638]} ) .

واختار الطبري القول الأول( {[639]} ) .

وقال مجاهد : " أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها( {[640]} ) في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و[ ثلاث عشر ]( {[641]} ) آية بعد ذلك في المنافقين( {[642]} ) " .

وقوله : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) [ 2 ] .

معناه : يتصدقون ويزكون .

وقيل( {[643]} ) : " هي نفقة الرجل على عياله " . قاله السدي( {[644]} ) .

وأصل " ما " في قوله : ( وَمِمَّا ) أن تكتب منفصلة ، لأنها بمعنى " الذي " . والهاء محذوفة من ( رَزَقْنَاهُمْ ) ، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه( {[645]} ) . فحذفت من صلة " ما " لطول الاسم . فإن كانت " ما( {[646]} ) " بغير معنى " الذي " ، وإنما هي صلة ، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله : ( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ )( {[647]} ) ، ( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ )( {[648]} ) وشبهه . وقد وقعت " ما " متصلة بما قبلها من الجار في الخط ، وهي بمعنى " الذي " ، وأصلها الانفصال ، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد ، وذلك نحو " مما " و " عما " .

وأيضاً فإنه/ لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر ، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار( {[649]} ) بالمجرور مع كثرة الاستعمال .

وقيل : إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ/ لم يثبت في الخط في مواضع وثب في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة ، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ .

واعلم أن " كل ما " ، إذا كانت بمعنى " إذا " و " متى " ، وصلتها مع " ما " ، فإن كانت على غير ذلك فصلتها من " كل " ، تقول : " كلما( {[650]} ) جاءني زيد أكرمني . أي " إذا جاءني زيد " ، فتصل " ما " " بكل " . وتقول " يسرني كل ما يسرك " فتفصل " ما " من " كل " لأنها بمعنى " الذي " . وقد كتبت " بِئْسَمَا " و " نِعْمَا " مَوْصُولَةَ وأصلها أن تفصل " ما " مما قبلها في الخط لأن " ما " اسم ، وليست بصلة/ وكذلك وصلت " حينئذ " و " يومَئِذٍ " .

وأصل " إذا " الانفصال مما قبلها ، لكن وصلت لكثرة الاستعمال والاختصار والإيجاز .


[595]:- في ع1، ع2، الآية معنى، وفي ع3: أي.
[596]:- في ق: تثنيته. وفي ع3: تأنيثه.
[597]:- في ع2: الحروف ولأنه بعض اسم.
[598]:- قوله "إذ الحروف" سقط من ق.
[599]:- في ق: فلا.
[600]:- هذا التوجيه من ح، وفي سائر النسخ، يجمع.
[601]:- في ع2: إذا.
[602]:- في ع2، ح، ع3: دخلت.
[603]:- في ح، في ق: الأشياء. وهو تحريف.
[604]:- انظر: تفسير ابن مسعود 2/21، ومفردات الراغب 22.
[605]:- في ق، ع3: الإيمان.
[606]:- سقط من ع2.
[607]:- في ع2، ع3: فصحيح.
[608]:- انظر: مفردات الراغب 380-381.
[609]:- هو أبو عبد الله سفيان بن مسروق الثوري، الكوفي، التابعي المشهور. محدث وفقيه (ت161هـ). انظر: طبقات ابن سعد 6/271-375، وتهذيب التهذيب 4/111.
[610]:- انظر: جامع البيان 1/236، والمحرر الوجيز 1/100، وتفسير القرطبي 1/163.
[611]:- انظر: مفردات الراغب 381، والمحرر الوجيز 1/100، وتفسير القرطبي 1/163.
[612]:- انظر: المحرر 1/100، وتفسير القرطبي 1/163.
[613]:- انظر: مفردات الراغب 381، والمحرر الوجيز 1/100 وتفسير القرطبي 1/163.
[614]:- في ع2: المنافقون. وهو خطأ.
[615]:- انظر: مفردات الراغب 380-381.
[616]:- انظر: تفسير القرطبي 1/164.
[617]:- انظر: جامع البيان 1/241، وتفسير القرطبي 1/164.
[618]:- انظر: هذا التوجيه في إعراب القرآن 1/132، ومشكل الإعراب 1/75، والبيان 1/48.
[619]:- انظر: مفردات الراغب 293.
[620]:- سقط من ع3.
[621]:- في ع2: ما لا يفسد وقاربه. وفي ع3: ملابسه وأقاربه وكلاهما تحريف.
[622]:- في ع2، ع3: بعباده.
[623]:- في ح: عليه السلام.
[624]:- انظر: سنن أبي داود 2/331.
[625]:- تصويب لابد منه. وفي جميع النسخ: الأعمش. وهو الأعشى الكبير ميمون بن قيس بن جندل الشاعر المعروف، أحد أصحاب المعلقات السبع. أدرك الإسلام ولم يسلم (ت7هـ). انظر: معجم الشعراء 325.
[626]:- سقط من ق.
[627]:- وصدر البيت: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا.
[628]:- والبيت من قصيدة من البحر البسيط يمدح بها الأعشى هوذة بن علي الحنفي مطلعها: باتت سعاد وأمسى حبلها انقطعا. انظر: ديوان الأعشى 101.
[629]:- انظر: تفسير القرطبي 1/168.
[630]:- انظر: هذا التوجيه في مشكل الإعراب 1/76، والبيان 1/48.
[631]:- في ق، ع3: هاء.
[632]:- في ع1: بدا له.
[633]:- في ع3: يريدون.
[634]:- في ع3: بالأربع.
[635]:- انظر: جامع البيان 1/238-239 وتفسير القرطبي 1/180.
[636]:- في ع1: إذا وهو تحريف.
[637]:- في ع2، ع3: به أحد.
[638]:- انظر: جامع البيان 1/238-239 وتفسير القرطبي 1/180.
[639]:- انظر: جامع البيان 1/239.
[640]:- في ع2: بعدهما.
[641]:- في ع3: ثلاثة عشر. وهو خطأ.
[642]:- انظر: تفسيره 1/69.
[643]:- في ع2: قال.
[644]:- أورده ابن عطية والقرطبي عن ابن مسعود. انظر: المحرر الوجيز 1/102 وتفسير القرطبي 1/179.
[645]:- تكملة موضحة من ق، ساقطة من سائر النسخ.
[646]:- في ع2، ح، ع3: مما.
[647]:- النساء آية 170.
[648]:- الحج آية 47.
[649]:- في ع3: الجر. وهو تحريف.
[650]:- سقط من ع2.