البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الذين يؤمنون بالغيب } : الإيمان : التصديق ، { وما أنت بمؤمن لنا } ، وأصله من الأمن أو الأمانة ، ومعناهما الطمأنينة ، منه : صدقه ، وأمن به : وثق به ، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب ، أو لمطاوعة فعل كأكب ، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء ، وهو يتعدى بالباء واللام { فما آمن لموسى } والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين .

الغيب : مصدر غاب يغيب إذا توارى ، وسمى المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب ، وخفف نحو لين في لين ، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في بنات الياء ، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو ، ونحو : سيد وميت ، وغيره قاسه فيهما .

وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء .

وخالف الفارسي في ذوات الواو ، فزعم أنه محفوظ لا مقيس ، وتقرير هذا في علم التصريف .

وقرأ الجمهور : يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء ، وهي فاء الكلمة ، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر ، وإذا أدرج بترك الهمز .

وروي هذا عن عاصم ، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل : يؤخركم ، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها ، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر ، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الاسم ، كمررت بزيد ، فتتعلق بالفعل ، أو للحال فتتعلق بمحذوف ، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به ، فيتعين في هذا الوجه المصدر ، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل ، قالوا : وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه : هذا خلق الله ، ودرهم ضرب الأمير ، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم ، أو على التخفيف من غيب كلين ، فلا يكون إذ ذاك مصدراً وذلك على مذهب من أجاز التخفيف ، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري ، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلاً من كلام العرب .

والغيب هنا القرآن ، قاله عاصم بن أبي الجود ، أو ما لم ينزل منه ، قاله الكلبي ؛ أو كلمة التوحيد وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الضحاك ، أو علم الوحي ، قاله ابن عباس ، وزر بن حبيش ، وابن جريج ، وابن وافد ، أو أمر الآخرة ، قاله الحسن ، أو ما غاب من علوم القرآن ، قاله عبد الله بن هانئ ، أو الله عز وجل ، قاله عطاء ، وابن جبير ، أو ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدلالة ، قاله ابن عيسى ، أو القضاء والقدر ، أو معنى بالغيب بالقلوب ، قاله الحسن ؛ أو ما أظهره الله على أوليائه من الآيات والكرامات ، أو المهدي المنتظر ، قاله بعض الشيعة ، أو متعلق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من تفسير الإيمان حين سئل عنه وهو : الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، خيره وشره ، وإياه نختار لأنه شرح حال المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب .

والإيمان المطلوب شرعاً هو ذاك ، ثم إن هذا تضمن الاعتقاد القلبي ، وهو الإيمان بالغيب ، والفعل البدني ، وهو الصلاة ، وإخراج المال . وهذه الثلاثة هي عمد أفعال المتقي ، فناسب أن يشرح الغيب بما ذكرنا .

{ ويقيمون الصلاة } والإقامة : التقويم ، أقام العود قومه ، أو الأدامة أقامت الغزالة سوق الضراب ، أي أدامتها من قامت السوق ، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر ، والهمزة في أقام للتعدية .

الصلاة : فعلة ، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى ، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب ، ويمتد منه عرقان في كل ورك ، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاة وتحرك فسمي بذلك مصلياً ، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق .

قال ابن عطية : فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانية الإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل ، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه ، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة ، وصلى فعل الصلاة ، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة ، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى دعا ، كما قال :

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي *** نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً

وقال :

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها *** وإن ذبحت صلى عليها وزمزما

قال : فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء ، وانضاف إليه هيئآت وقراءة ، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاء أحسن ، انتهى كلامه .

وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا ، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة .

وما فسر به الإقامة قبل يصلح أن يفسر به قوله : { ويقيمون الصلاة } ، وقالوا : وقد يعبر بالإقامة عن الأداء ، وهو فعلها في الوقت المحدود لها ، قالوا : لأن القيام بعض أركانها ، كما عبر عنه بالقنوت ، والقنوت القيام بالركوع والسجود . قالوا : سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها ، { فلولا أنه كان من المسبحين } ، قاله الزمخشري ولا يصح إلا بارتكاب مجاز بعيد ، وهو أن يكون الأصل قامت الصلاة بمعنى أنه كان منها قيام ثم دخلت الهمزة للتعدية فقلت : أقمت الصلاة ، أي جعلتها تقوم ، أي يكون منها القيام ، والقيام حقيقة من المصلي لا من الصلاة ، فجعل منها على المجاز إذا كان من فاعلها . والصلاة هنا الصلوات الخمس ، قاله مقاتل : أو الفرائض والنوافل ، قاله الجمهور .

و " مِنْ " حرف جر .

وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة :

بذلنا مارن الخطى فيهم *** وكل مهند ذكر حسام

منا أن ذر قرن الشمس حتى *** أغاب شريدهم قتر الظلام

وتأول ابن جني ، رحمه الله ، على أنه مصدر على فعل من منى بمنى أي قدر .

واغتر بعضهم بهذا البيت فقال : وقد يقال منا .

وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض ، وزائدة وزيد لبيان الجنس ، وللتعليل ، وللبدل ، وللمجاوزة والاستعلاء ، ولانتهاء الغاية ، وللفصل ، ولموافقة في مثل ذلك : سرت من البصرة إلى الكوفة ، أكلت من الرغيف ، ما قام من رجل ، { يحلون فيها من أساور من ذهب } { في آذانهم من الصواعق } { بالحياة الدنيا من الآخرة } { غدوت من أهلك } قربت منه ، { ونصرناه من القوم } { يعلم المفسد من المصلح } { ينظرون من طرف خفي } { ماذا خلقوا من الأرض } ما تكون موصولة ، واستفهامية ، وشرطية ، وموصوفة ، وصفة ، وتامة .

مثل ذلك : { ما عندكم ينفد } مال هذا الرسول ، { ما يفتح الله للناس من رحمة } ، مررت بما معجب لك ، لأمر ما جدع قصير أنفه ، ما أحسن زيداً .

{ رزقناهم } الرزق : العطاء ، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن ، والرزق المصدر ، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته ، { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } ، وقال :

رزقت مالاً ولم ترزق منافعه *** إن الشقي هو المحروم ما رزقا

وقيل : أصل الرزق الحظ ، ومعاني فعل كثيرة ذكر منها : الجمع ، والتفريق ، والإعطاء ، والمنع ، والامتناع ، والإيذاء ، والغلبة ، والدفع ، والتحويل ، والتحول ، والاستقرار ، والسير ، والستر ، والتجريد ، والرمي ، والإصلاح ، والتصويت .

مثل ذلك : حشر ، وقسم ، ومنح ، وغفل ، وشمس ، ولسع ، وقهر ، ودرأ ، وصرف ، وظعن ، وسكن ، ورمل ، وحجب ، وسلخ ، وقذف ، وسبح ، وصرخ .

وهي هنا للإعطاء نحو : نحل ، ووهب ، ومنح .

{ ينفقون } ، الإنفاق : الإنفاذ ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد ، والهمزة للتعدية ، يقال نفق الشيء نفذ ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق ، والنافقاء ، ونفق .

والرزق قيل : هو الحلال ، قاله أصحابنا ، لكن المراد هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي . ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط ، وكان حقها أن تكوم منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي ، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد ، ولأنها قد أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخطأ ، وهنا للتبعيض ، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير والإسراف . والنفقة التي في الآية هي الزكاة الواجبة ، قاله ابن عباس ، أو نفقة العيال ، قاله ابن مسعود وابن عباس ؛ أو التطوع قبل فرض الزكاة ، قاله الضحاك معناه ، أو النفقة في الجهاد أو النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة ، وقالوا إنه كان الفرض على الرجل أن يمسك مما في يده بمقدار كفايته في يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء ، ورجح كونها الزكاة المفروضة لاقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن والسنة ، ولتشابه أوائل هذه السورة بأول سورة النمل وأول سورة لقمان ، ولأن الصلاة طهرة للبدن ، والزكاة طهرة للمال والبدن ، ولأن الصلاة شكر لنعمة البدن ، والزكاة شكر لنعمة المال ، ولأن أعظم ما لله على الأبدان من الحقوق الصلاة ، وفي الأموال الزكاة ، والأحسن أن تكون هذه الأقوال تمثيلاً للمتفق لا خلافاً فيه .

وكثيراً ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق ، أو أخبر به ، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد ليعلم أن الذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه ، وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة ، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل ، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف ، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد وإشعاراً أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد ، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه ، أي ومما رزقناهموه ، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعيناً للربط معمولاً لفعل متصرف تام .

وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر ، ومن شيء رزقناهم ولضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يحصل يجعل ما موصولة لعمومها ، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية ، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر ، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول ، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق ، وترتيب الصلاة على حسب الإلزام .

فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائماً ، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات ، والنفقة لازمة في بعض الأوقات ، وهذا من باب تقديم الأهم فالأهم .

5

/خ20