السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب } أي : يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان ، والإيمان لغة التصديق وشرعاً قيل : التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده ، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : { كتب في قلوبهم الإيمان } ( المجادلة ، 22 ) وقال : { وقلبه مطمئن بالإيمان } ( النحل ، 106 ) وقال : { ولم تؤمن قلوبهم } ( المائدة ، 41 ) وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ( الحجرات ، 9 ) { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ( البقرة ، 178 ) فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين .

فإن قيل : قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وغيره : إنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، أجيب : بأن ذلك محمول على الإيمان الكامل . وقرأ ورش والسوسي بإبدال الهمزة الساكنة في يؤمنون واواً وكذا يقرأ حمزة في الوقف { ويقيمون الصلاة } أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهآتها يقال : قام بالأمر وأقامه إذا أتى به يعطي حقوقه لأنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون ، ولذلك ذكر في سياق المدح { والمقيمين الصلاة } ( النساء ، 162 ) وفي معرض الذمّ { فويل للمصلين } ( الماعون ، 4 ) والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الوحدان كقوله تعالى : { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق } ( البقرة ، 213 ) يعني : الكتب ، والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : { وصل عليهم } ( التوبة ، 103 ) أي : ادع لهم ، وفي الشرع إسم لأفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم . وقرأ ورش بتغليظ اللام في الصلاة حيث جاء { ومما رزقناهم } أي : أعطيناهم { ينفقون } يخرجون المال في طاعة الله فرضاً كان أو نفلاً ، ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانها بالصلاة لأنهما يذكران معاً في القرآن ويحتمل أن يراد به الإنفاق مما منحهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده ما رواه الطبرانيّ في «الأوسط » مرفوعاً : ( مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه ) وإلى هذا ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون . والرزق بالكسر في اللغة : الحظ ، قال الله تعالى : { وتجعلون رزقكم } أي : حظكم ونصيبكم من القرآن { أنكم تكذبون } ( الواقعة ، 82 ) وأمّا بالفتح فهو مصدر بمعنى إعطاء الحظ كما أنه بالكسر يكون مصدراً أيضاً كما قيل به في قوله تعالى : { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } ( النحل ، 75 ) وفي العرف اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والرقيق ، والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام لأنه تعالى منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا : الرزق لا يتناول الحرام ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال الصرف الطيب وأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً } ( يونس ، 59 ) وأجاب أهل السنة عما ذكر بأن الإسناد التعظيم والتحريض على الإنفاق والذم بتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق له بما رواه ابن ماجة وغيره من حديث صفوان بن أمية قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه عمرو بن قرّة فقال : يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال : ( لا آذن لك ولا كرامة ، كذبت أي عدوّ الله لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله ) وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً وليس كذلك لقوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } ( هود ، 6 ) .

تنبيه : تقديم رزقناهم على ينفقون للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه في حق من لم يصبر على الإضاقة وإلا فليس بإسراف فقد تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم .