الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم نعتهم [المتقين]، فقال سبحانه: {الذين يؤمنون بالغيب}، يعني يؤمنون بالقرآن أنه من الله تعالى جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بما فيه.

{ويقيمون الصلاة} المكتوبة الخمس، يعني يقيمون ركوعها وسجودها في مواقيتها.

{ومما رزقناهم} من الأموال {ينفقون} يعني الزكاة المفروضة، نظيرها في لقمان، فهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

عن ابن عباس: (الّذينَ يُؤْمنُونَ) قال: يصدقون...

ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيُدْعَى المصدّق بالشيء قولاً مؤمنا به، ويُدْعَى المصدّق قوله بفعله مؤمنا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صَادِقِينَ) يعني: وما أنت بمصدق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل.

والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. وإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب، قولاً، واعتقادا، وعملاً، إذ كان جل ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيء من معانيه أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل...

عن ابن عباس:"بالغيب" قال: بما جاء منه، يعني من الله جل ثناؤه...

عن قتادة في قوله: (الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْب) قال: آمنوا بالجنة والنار والبعث بعد الموت وبيوم القيامة، وكل هذا غيب...

وقد اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم، وفي نعتهم وصفتهم التي وصفهم بها من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره.

فقال بعضهم: هم مؤمنو العرب خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب. واستدلوا على صحة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم بالآية التي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول الله عز وجل: {وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. قالوا: فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها. قالوا: فلما قص الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب، علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الاَخر، وأن المؤْمنين بالغيب نوع غير النوع المصدّق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والاَخر منهما على من قبله من رسل الله تعالى ذكره. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: {الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ} إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار والثواب والعقاب والبعث، والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها، بما أوجب الله جل ثناؤه على عباده الدينونة به دون غيرهم...

وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرّونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله أنه من عند الله جل وعز، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها لما استقرّ عندهم بالحجة التي احتجّ الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم أن جميع ذلك من عند الله...

وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتابين و سواهم، وإنما هذه صفة صنف من الناس، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله هو المؤمن بالغيب...

وأولى القولين عندي بالصواب وأشبههما بتأويل الكتاب، القول الأول، وهو: أن الذين وصفهم الله تعالى ذكره بالإيمان بالغيب، وما وصفهم به جل ثناؤه في الآيتين الأولَتين غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزل على محمد والذي أنزل إلى من قبله من الرسل لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك، ومما يدل أيضا مع ذلك على صحة هذا القول أنه جَنّسَ بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنف الكفار جِنْسَين، فجعل أحدهما مطبوعا على قلبه مختوما عليه مأيوسا من إيمانه، والآخر منافقا يرائي بإظهار الإيمان في الظاهر، ويستسرّ النفاق في الباطن، فصير الكفار جنسين كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين. ثم عرّف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم وما أعدّ لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب، وذمّ أهل الذمّ منهم، وشكر سعي أهل الطاعة منهم.

... عن ابن عباس: (وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ) قال: الذين يقيمون الصلاة بفروضها.

... [و] عن ابن عباس: (ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) قال: يؤتون الزكاة احتسابا بها... [و] عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وأولى التأويلات بالآية وأحقها بصفة القوم أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين؛ زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لأن الله جل ثناؤه عمّ وصفهم، إذ وصفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم، فكان معلوما أنه إذ لم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبها دون نوع بخبر ولا غيره أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمود عليها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلال منه الذي لم يشبه حرام...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يقال: العبد بقلبه وببدنه وبماله؛ فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم، وحين قاموا لِحَقِّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إن قلت: ما هذه الصفة، أواردة بياناً وكشفاً للمتقين؟ أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات الله الجارية عليه تمجيداً؟

قلت: يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أمّا الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة؛ لأنّ هاتين أُمّا العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة عماد الدين"، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟ وسمى الزكاة قنطرة الإسلام؟ وقال الله تعالى: {وويلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصلت: 6 7]. فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها. ومن ثم اختصر الكلام اختصاراً، بأن استغنى عن عدّ الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. وأما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]؟ ويحتمل أن لا تكون بياناً للمتقين، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي. ويحتمل أن تكون مدحاً للموصوفين بالتقوى، وتخصيصاً للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر؛ إظهاراً لإنافتها عن سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات.

والإيمان: إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيري. ثم يقال: آمنه إذا صدّقه. وحقيقته: آمنه التكذيب والمخالفة. وأمّا تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقرّ وأعترف. وأمّا ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة، أي ما وثقت فحقيقته: صرت ذا أمن به، أي ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في {يُؤْمِنُونَ بالغيب} أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق.

ويجوز أن لا يكون {بالغيب} صلة للإيمان، وأن يكون في موضع الحال، أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته: ملتبسين بالغيب، كقوله {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} [فاطر: 18]، {لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52]. ويعضده ما روي «أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إنّ أمر محمد كان بيناً لمن رآه. والذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب. ثم قرأ هذه الآية.

فإن قلت: فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالاً؟ قلت: إن جعلته صلة كان بمعنى الغائب، إمّا تسمية بالمصدر من قولك: غاب الشيء غيباً، كما سمي الشاهد بالشهادة. قال الله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} [الزمر: 46]. والعرب تسمي المطمئن من الأرض غيباً...

وإما أن يكون فيعلا فخفف، كما قيل: "قيل "وأصله: قيِّل. والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلاً عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته، والنبوّات وما يتعلق بها، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد، وغير ذلك.

وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء.

فإن قلت: ما الإيمان الصحيح؟ قلت: أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه، ويصدّقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل فهو فاسق.

ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قوّمه. أو الدوام عليها والمحافظة عليها، كما قال عز وعلا: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، {والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون} [المؤمنون: 9] من قامت السوق إذا نفقت، وأقامها... لأنها إذا حوفظ عليها، كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون. وإذا عطلت وأضيعت، كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو التجلد والتشمر لأدائها، وأن لا يكون في مؤدّيها فتور عنها ولا توان، من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها. وفي ضدّه: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط، أو أداؤها فعبر عن الأداء بالإقامة؛ لأنّ القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت، والقنوت القيام وبالركوع وبالسجود، وقالوا: سبح، إذا صلى؛ لوجود التسبيح فيها. {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143].

والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى. وحقيقة صلى: حرّك الصلوين؛ لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه؛ لأنه ينثني على الكاذتين وهما الكافرتان. وقيل للداعي: مصلّ، تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد.

وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله، ويسمى رزقاً منه. وأدخل من التبعيضية صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه. وقدّم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدّق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة، وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبيل الخير، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق. وأنفق الشيء وأنفده أخوان.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

... وكثيراً ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق، أو أخبر به، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد، ليعلم أن الذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه.

وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر بالثبوت، والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف.

وقدم المنفق منه على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد وإشعاراً أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد، ولتناسب الفواصل.

وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه، أي ومما رزقناهموه،... وترتيب الصلات على حسب الإلزام؛ فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائماً، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات، والنفقة لازمة في بعض الأوقات، وهذا من باب تقديم الأهم فالأهم.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه. والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» 42. والأحاديث في هذا كثيرة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين:

(الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون)..

إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة. الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب، والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة، واليقين بعد ذلك بالآخرة.. هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا، ولتهيمن على البشرية جميعا، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة، شاملة للشعور والعمل، والإيمان والنظام.

فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا..

(الذين يؤمنون بالغيب).. فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها، وصدر عنها هذا الوجود؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات.

والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده، حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.

وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه. إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها، وتتعمقها وتتقصاها، وتعمل وتنتج، وتنمي هذه الحياة وتجملها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول.. فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا، ومحاولة عابثة أخيرا. فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال. وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال.. ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق، لزمه -احتراما لمنطقه ذاته- أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل؛ وإن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، والغيب والشهادة.. وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين.

لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري.. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية "وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: (الذين يؤمنون بالغيب) والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين!

(ويقيمون الصلاة).. فيتجهون بالعبادة لله وحده، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد، وعبادة الأشياء. يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد؛ والقلب الذي يسجد لله حقا، ويتصل به على مدار الليل والنهار، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق.. وهذا كله مصدر قوة للضمير، كما أنه مصدر تحرج وتقوى، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية، وجعلها ربانية التصور، ربانية الشعور، ربانية السلوك.

(ومما رزقناهم ينفقون).. فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق، والتضامن بين عيال الخالق، والشعور بالآصرة الإنسانية، وبالأخوة البشرية.. وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح، وتزكيتها بالبر. وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس، لا بين أظفار ومخالب ونيوب!

والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة، وسائر ما ينفق في وجوه البر. وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه. وقد ورد في حديث رسول الله [ص] بإسناده لفاطمة بنت قيس "إن في المال حقا سوى الزكاة".. وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام، فكانت شعارَ المسلمين وهي الإيمان الكامل، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن.

ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان، لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خويصة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب. أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين، حتى إِنه يَتبقَى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه. وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به، لأنها تميل إلى المحسوس. فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة.

ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي مُحسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية، ولأن الزكاة أداء المال وقد عُلم شح النفوس قال تعالى: {وإذا مسه الخير منوعاً} [المعارج: 21]، ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

تجليات العقيدة في الممارسة الإنسانية:

"وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ" لقد تحدّث القرآن عن الإيمان بالغيب الذي يتمثّل ب «الإيمان باللّه»، ثُمَّ ربطه بالجانب العملي ليفهم منه أنَّ الإيمان الذي يُراد في الإسلام ليس هو الإيمان النظري الذي يعيش في فكر الإنسان من خلال المعادلات العقلية المجرّدة، بل هو الذي يعيش في النفس لينطلق في مجال الحياة العملية، ولهذا كانت الشخصية الإسلامية الإيمانية مرتكزة على الجانب الفكري في العقيدة والجانب العملي في الممارسة.

وقد طرح القرآن للجانب العملي نموذجين:

أحدهما: يمثّل تعبيراً للإنسان عن جانب ممارسته العقيدية في حركات تعبيرية، تتجسّد فيها معاناته الداخلية للإيمان، وتنسجم فيها روحه مع تطلعاتها وإحساسها الحي بارتباطها العميق باللّه، وذلك لحاجة التكامل الإيماني لديه إلى الممارسة العملية، والتعبير المتجسد الذي تنساب فيه الإيحاءات الخفية في النفس، من خلال الكلمة والحركة والموقف والشعور، ما يفسح في المجال للنفس لتواجه الموقف الإيماني من عمق الإحساس الذاتي بالفكرة، لا من خلال الإيحاء والتوجيه الخارجي.

إنه موقف العطاء الذي يتفجر كالينبوع من النفس، لا موقف التلقي والأخذ من عطاء الآخرين، وهذا هو ما تعبر عنه الصلاة في روحيتها المنسابة مع كلّ كلمة من كلماتها، أو حركة من حركاتها، ليتحسّس الإنسان معها العلاقة باللّه، كما لو كانت شيئاً يتجسّد ويُحسّ ويتحوّل إلى فعل محبة وعبادة... واستغراق للروح في وعي القيم الكبيرة المنطلقة من خلال اللّه، واستشعار لمسؤولياته عن المعاني الكبيرة في الحياة، من خلال الموقف الحقّ الذي يقفه بين يدي اللّه في استعادته لعملية الإيمان، وليعيش القوّة أمام نوازع الضعف وتحدّيات القوى، لئلا يبقى بعيداً عن مصدر القوّة التي تسنده، وتدعم وجوده وموقفه، وترعاه في كلّ مجالاته، فيستطيع أن يحقّق التماسك والانضباط بين يدي اللّه.

ثانيهما: ما يؤكده قوله تعالى: "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" من تكامل بين علاقة الإنسان باللّه وعلاقته بالحياة.

فهذه الآية تؤكد بأنَّ على الإنسان أن يعيش العطاء، فيعطي مما رزقه اللّه، لأنَّ كلّ ما في الكون هو للّه تعالى، وكلّ ما يقع تحت يديه هو للّه تعالى، لأنه إنما كان له بقدرته تعالى، وبما هيّأ له من الأسباب والوسائل، ورفع من طريقه العقبات والموانع، ولذا عليه أن يشعر بأنَّ العطاء وظيفة ومسؤولية لا تفضلاً ومنّة. فالإنسان مؤتمن على ما ملّكه اللّه تعالى ومكنه منه، وبالتالي عليه أن يدبره ويديره ويتصرّف به وفق مشيئة مالكه الحق، أي اللّه سبحانه وتعالى.

وبذلك يتصاعد الإيحاء، في لفتة رائعة، تنسب المال إلى مصدره الأساس وهو اللّه، ليدرك أنه لا ينفق مما يختص به، أو يملكه ملكاً ذاتياً حتى يعيش أنانية العطاء، بل ينفق مما رزقه اللّه. ويتسع الإيحاء في ربط الإنفاق بمصدر العطاء الذي هو اللّه، ليعتبر الإنسان أنه مسؤول عن كلّ ما رزقه اللّه من رزق ليعطيه وينفق منه على أساس المسؤولية، فليس حراً في أن يفعل به ما يريد كما يريد. وقد نلتقي ببعض الأحاديث المأثورة التي تستوحي من الآية الفكرة التي تمتد بالإنفاق إلى ما هو أبعد من المال، فتتسع المسؤولية لتشمل كلّ طاقة يملكها الإنسان مما يحتاج إليه الآخرون، فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) في مقام تطبيق الآية: «[وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] قال: وممّا علمناهم يبثون» [1]. وفي حديث آخر: «وما علّمناهم من القرآن يتلون» [2]، ومن الطبيعي أنَّ الإمام الصادق (ع) لا يريد أن يحصر مدلول الآية في إنفاق العلم، لأنَّ مجالها اللغوي أوسع من ذلك، ولأنَّ الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في أمثال هذا السياق ظاهرة في المال أو في ما هو أوسع من المال... ولكن الظاهر أنه يريد الإيحاء، للذين يفهمون منها المال، أنها تشمل العلم كأسلوب من أساليب التوجيه والتنبيه للآخرين الذين يملكون العلم ولا يبثونه في من يحتاج إليه، على اعتبار أنَّ هذه الصفة من السمات البارزة للشخصية الإيمانية، وهذا ما استوحيناه من سعة المدلول القرآني.

ونحن نستطيع أن نستوحي منها، أيضاً، الإنفاق في مجالات أخرى، كإنفاق الجاه والجهد والخبرة وغيرها من الطاقات، لنطلب من الآخرين الذين يملكون أمثال ذلك أن لا يحتكروه لأنفسهم، بل أن يبذلوه لمن يحتاجه من النّاس. وملخّص الفكرة، أنَّ المؤمن يشعر بأنه مسؤول عن الإنفاق من كلّ ما رزقه اللّه من مال أو علم أو جهد أو جاه وغيره، من موقع الواجب لا من موقع التفضل. وقد يناقش المناقشون في ظهور اللفظ في ذلك، ولكن اللفظ ليس مدلولاً لغوياً يتجمد المعنى عنده، بل هو إيحاء عميق ممتد في رحاب الحياة، يتسع ويشمل كلّ ما يتصل به من أجواء ومواقف وأشياء.