الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

فصل في الإيمان

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب ، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب ، ولم يكن العرب يعرفون الإيمان غير التصديق ، والنقل في اللغة لم يثبت فيه ، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك ، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء .

إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم ، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام وبنيه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] : أي بمصدق لنا ولو كنّا صادقين ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب ، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب ، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال : { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } والدليل عليه أيضاً أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [ نسبه ] إلى القلب فقال : { مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [ المائدة : 41 ] ، وقال : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [ النحل : 106 ] ، وقال : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] ، ونحوها كثير .

فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء : كل شمس ضوء ، وليس كل ضوء شمساً ، وكل مسك طيب ، وليس كل طيب مسكاً ، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً ، إذا لم يكن تصديقاً ؛ لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع ، يدل عليه قوله تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] من خوف السيف ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان سراً " وأشار إلى صدره " والإسلام علانية " ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يا معشر من أسلم بلسانه ، ولم يدخل الإيمان في قلبه " .

وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان ، فأجاب في الإيمان بالتصديق ، وفي الإسلام بشرائع الإيمان ، وهو ما روى أبو بريده ، وهو يحيى بن معمر قال : أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هو : ما في القدر ؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون القرآن ويفتقرون [ إلى ] العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر ، وأنّ الأمر أنفٌ ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني ، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحد ذَهَباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر .

ثم قال : أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال : " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بيّاض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبته إلى ركبته ، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " ، قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدّقه قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " .

قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك " ، قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " ، قال : فأخبرني عن إماراتها ؟ قال : " أن تلد الأَمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان " ، قال : ثم انطلق ، فلبث علينا ثم قال : يا عمر من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " فإنّه جبرائيل عليه السلام أتاكم ليعلمكم دينكم " .

ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيماناً بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة ؛ لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول : رأيت الفرح في وجه فلان ، ورأيت علم زيد في تصنيفه ؛ وإنّما الفرح والعلم في القلب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون باباً ، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله " .

وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان " .

الحسن بن علي قال : حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرارٌ باللسان ، وعمل بالأركان " .

وعن علي بن الحسين زين العابدين قال : حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال : حدثنا أبي سيد الأوصياء قال : حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال : " الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول " .

وامّا الغيب فهو ما كان مغيّباً عن العيون محصّلاً في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب ، كما قيل للصائم : صوم ، وللزائر : زَور ، وللعادل : عدل .

الربيع بن أبي العالية { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كلّه .

عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بالله ، من آمن بالله فقد آمن بالغيب .

سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : الغيب : القرآن . وقال الكلبي : بما نزل من القرآن وبما لم يجىء بعد .

الضحاك : الغيب لا إله إلاّ الله وما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد : يعني بالوحي ، نظيره قوله تعالى : { أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } [ النجم : 35 ] وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً } [ الجن : 26 ] وقوله : { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } [ التكوير : 24 ] .

الحسن : يعني بالآخرة . عبد الله بن هاني : هو ما غاب عنهم من علوم القرآن .

وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) انه قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فقال : " أتدرون أي أهل الأيمان أفضل ؟ " قالوا : يا رسول الله الملائكة ، قال : " هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم ، بل غيرهم " .

قلنا : يا رسول الله الأنبياء ؟ قال : " هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم ، بل غيرهم " ، قلنا : يا رسول الله فمن هم ؟ قال : " أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني ، يجدون الورق المعلَّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً " .

وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود : عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن مسعود : نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه ، ثم قال عبد الله : إنّ أمر محمد كان بيّناً لمن رآه والذي لا اله الاّ هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب ، ثمّ قرأ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها ، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس ، وأقام القوم [ سوقهم ] ولم يعطلوها قال الشاعر :

فلا تعجل بأمرك واستدمه *** فما صلّى عصاك [ كمستديم ]

أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس ، فذكرها بلفظ الواحد ، كقوله : { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ } أراد الكتب [ البقرة : 213 ] ، وأصل الصلاة في اللغة : الدّعاء ، ثمّ ضمّت إليها [ عبادة ] سُميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء .

وقال أبو حاتم الخارزمي : اشتقاقها من الصِلا وهو النار ، فأصله من الرفق وحُسن المعاناة للشيء ؛ وذلك إنّ الخشبة المعْوّجة إذا أرادوا تقويمها [ سحنوها بالنار ] قوموها [ بين خشبتين ] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهراً وباطناً ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ ولا يعرف ] قال الشاعر :

فلا تعجّل بأمرك واستدمه *** فما صلّى عصاك كمستديم

أي ما قوّم أمرك كالمباني . { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أعطيناهم ، والرزق عند أهل السنّة : ما صحّ الإنتفاع به ، فإن كان طعاماً فليتغدّى به ، وان كان لباساً فلينقى والتوقي ، وإن كان مسكناً فللانتفاع به سكنى ، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين : حلالا وحراماً ، فلذلك قُلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام ، [ وأصل الرزق ] في اللغة : هو الحظ والبخت . { يُنْفِقُونَ } يتصدقون ، وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد أو عن الملك . يُقال : نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه ، ونفقت الدآبة إذا خرجت روحها ، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه ، والنفق : سُرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه .