فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ يقيمون } يؤدون بتمام ويداومون ، ويثبتون .

{ الصلاة } العبادة المعروفة . { رزقناهم } أعطيناهم .

{ ينفقون } يخرجون . { بما أنزل إليك } بالقرآن .

{ الذين يؤمنون بالغيب } الذين يستيقنون بما لابد من التصديق الراسخ به وإن غاب عن أعينهم –الإيمان في اللغة يطلق على التصديق المحض كما قال تعالى : { . . يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين . . }{[101]} وكما قال إخوة يوسف لأبيهم { . . وما أنت بمؤمن لنا . . }{[102]} ؛ وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . }{[103]} ؛ فأما إذا استعمل مطلقا فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا ، هكذا ذهب أكثر الأئمة وحكاه الشافعي وأحمد إجماعا : أن الإيمان قولا وعملا ، يزيد وينقص . . . وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ، فقال أبو العالية : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وجنته ولقائه ، وبالحياة بعد الموت . . {[104]}- وأما الذين يرتابون في مطالب الإيمان فلا يهتدون بالقرآن بل قد يتمادون بعد سماعه في الطغيان ، يقول ربنا جل ثناؤه : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا }{[105]} ؛ { . . والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى . . }{[106]} ؛ والإيمان شرعا- فيما ذهب إليه جمهور المحققين- : التصديق بما علم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به بضرورة ، تفصيلا فيما علم تفصيلا ، وإجمالا فيما علم إجمالا ؛ وذهب البعض إلى أنه المعرفة بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، وجوانبه أشارت إليه مجتمعة آية في أوسط سورة البقرة { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين . . } وآية كريمة في خواتمها : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } ؛ وزادت السنة سادسا : ( وأن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره ) .

{ ويقيمون الصلاة } ويوفون الصلاة حقها ، وذلك كقوله سبحانه : ( . . لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل . . ){[107]} ، أي توفوا حقها بالعلم والعمل ، ( الصلاة ) في الأصل الدعاء ؛ وعند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان ، وعرفوها بأنها العبادة ذات الهيآت والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم- تكبيرة الإحرام- ومختتمها التسليم ، فرضا كانت أو نفلا-إلا أنه يحتمل أن يقال : المراد بها في الآية الفرض ، لأن الفلاح قد نيط بها في قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي ( أفلح والله إن صدق ) بعد قول الأعرابي : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص أي على ( الصلوات ){[108]} المفروضة .

{ مما رزقناهم ينفقون } الرزق لغة : هو ما ينتفع به ؛ وعند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما ؛ والإنفاق : البذل والإخراج ، وهذا شامل للنفقات الواجبة- نفقة الرجل على نفسه وعلى من يعول- وللزكاة كذلك .

إن الشرع القويم والطبع السليم يقضيان بأن ابتغاء السعادة وبلوغ منازل الأتقياء والفوز بهداية القرآن سبيلها إيمان وعبادة ، وبهذا بشر أهل اليقين : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . . }{[109]} بعد قوله الحكيم { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } ؛ والمصلون المنتهون عن الفحشاء والمنكر يشرح الله تعالى صدورهم ، ويطيب قولهم وفعلهم ، ويجمع عليهم أمرهم ، لا يدرك ذلك إلا من استيقن يقينهم وعمل عملهم ، { إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا . إلى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون . والذين في أموالهم حق معلوم ، للسائل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين }{[110]} ؛ فهؤلاء في الآخرة السعداء ، وهم في هذه الحياة الدنيا لا يجزعون عند البلاء ، ولا يضنون ببذل ولا يخشون في عطاء ، بل بفضل الله تعالى يجودون ، ومن طيبات ما أحل لهم يأكلون ويشربون ويتزينون ويتملكون ، ويتصدقون ويهدون ؛ وفريق من علماء القران على أن : { ومما رزقناهم ينفقون } مما نزل قبل أن تفرض الزكاة ، فإن هذه السورة- سورة البقرة- أول ما نزل بالمدينة ، والزكاة شرعت في السنة الثانية من الهجرة ؛ ومن سماحة الإسلام أنه يرتب الإنفاق ويثيب عليه ، ويبشر النبي صلى الله عليه وسلم كل منفق لا يبذر ولا يتفاخر بأنه مأجور . {[111]}


[101]:سورة التوبة من الآية 61.
[102]:سورة يوسف من الآية 17.
[103]:سورة العصر من الآية 3.
[104]:ما بين العارضتين مما أورد ابن كثير
[105]:سورة الإسراء الآيتان 45-46.
[106]:سورة فصلت من الآية 44.
[107]:سورة المائدة من الآية 68.
[108]:أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن بحثا مطولا في الصلاة و إقامتها زاد على اثنتي عشرة صفحة.
[109]:سورة المائدة من الآية 16.
[110]:سورة المعارج الآيتان من 19 إلى 26.
[111]:من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إنك ما نفقت من نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك ) وروى " في في امرأتك" و في حديث شريف آخر (ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل عن نفسك شيء فلزوجك فإن فضل عن زوجك شيء فلولدك، فإن فضل عن ولدك شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذوي قرابتك شيء فهكذا و هكذا) أي أنفق في كل جوانب النفع والخير ما استطعت.