معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } . قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد ، قد أصابهم ما أصابهم ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله تعالى ( ولقد صدقكم الله وعده ) . بالنصر والظفر ، وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء .

قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين ، وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم " احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " . وأقبل المشركون ، فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل ، والمسلمون يضربونهم بالسيوف ، حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إذ تحسونهم بإذنه ) أي تقتلونهم قتلاً ذريعاً بقضاء الله . قال أبو عبيدة : الحس : الاستئصال بالقتل .

قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } . أي إن جبنتم ، وقيل : معناه فلما فشلتم .

قوله تعالى : { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } . فالواو زائدة في وتنازعتم ، يعني إذا فشلتم تنازعتم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون ، فقال بعضهم : انهزم القوم فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة . فلما رأى خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صباً ، وانقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس : أن محمداً قد قتل ، فكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين . قوله تعالى ( وعصيتم ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره .

قوله تعالى : { من بعد ما أراكم } . الله .

قوله تعالى : { ما تحبون } . يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة .

قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } . يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب .

قوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } . يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا ، قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية .

قوله تعالى : { ثم صرفكم عنهم } . أي ردكم عنهم بالهزيمة .

قوله تعالى : { ليبتليكم } . ليمتحنكم ، وقيل : لينزل البلاء عليكم .

قوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } . فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة منكم لأمر نبيكم .

قوله تعالى : { والله ذو فضل على المؤمنين } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } قال ابن عباس : وعدهم الله النصر .

وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل ، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام ، فلما حصل ما حصل من عصيان الرُّماة وفشل بعض المقاتلة ، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : أول النهار { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي : تقتلونهم{[5823]} { بِإِذْنِهِ } أي : بتسليطه إياكم عليهم { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } وقال{[5824]} ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل الجبن ، { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ } كما وقع للرماة { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } وهو الظفر منهم{[5825]} { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أي : غفر لكم ذلك الصَّنِيع ، وذلك - والله أعلم - لكثرة عَدد العدو وعُدَدهم ، وقلة عَدد المسلمين وعُدَدهم .

قال ابن جريج : قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال : لم يستأصلكم . وكذا قال محمد بن إسحاق ، رواهما ابن جرير { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عُبَيد الله{[5826]} عن ابن عباس أنه قال : ما نَصَرَ الله في مَوْطِن كما نصره يوم أحد . قال : فأنكرنا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتابُ الله ، إن الله يقول في يوم أحد : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول ابن عباس : والحَسُّ : القتل{[5827]} { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } الآية{[5828]} وإنما عنى بهذا الرماة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ، ثم قال : " احْمُوا ظُهُورَنَا ، فَإنْ رَأيْتُمُونَا نقتل فَلا تَنْصُرُونَا وَإنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا . فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحُوا عسكر المشركين أكبّت الرُّماة جميعا [ ودخلوا ]{[5829]} في العسكر ينهبون ، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَهُم هكذا - وشبك بين يديه - وانتشبوا ، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها ، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضرب{[5830]} بعضهم بعضا والتبسوا ، وقُتل من المسلمين ناس كثير ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار ، حتى قُتِل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا - حيث يقول الناس - الغار ، إنما كان{[5831]} تحت المِهْراس ، وصاح الشيطان : قُتل محمد ، فلم يُشَك فيه أنه حق ، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق ، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين ، نعرفه بتلفته{[5832]} إذا مشى - قال : ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا - قال : فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : " اشتد{[5833]} غَضَبَ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ " . ويقول مرة أخرى : " اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا " . حتى انتهى إلينا ، فمكث ساعة ، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : اعْلُ هبل ، مرتين - يعني آلهته - أين ابن أبي كَبْشة ؟ أين ابن أبي قحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : يا رسول الله ، ألا أجيبه ؟ قال : " بلى " قال : فلما قال : اعل هبل . قال عمر : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : قد أنعمت عينها فعَادِ عنها{[5834]} أو : فَعَالِ ! فقال : أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قُحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هذا رسول الله ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا عمر . قال : فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، الأيام دُوَل ، وإن الحرب سِجَال . قال : فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . قال{[5835]} إنكم تزعمون{[5836]} ذلك ، لقد خِبْنا إذا وخَسِرْنا ثم قال أبو سفيان : إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة{[5837]} ولم يكن ذلك على رأي سراتنا . قال : ثم أدركَتْه حَمِيَّة الجاهلية فقال : أما إنه إن كان ذلك لم نَكْرهْه .

هذا حديث غريب ، وسياق عجيب ، وهو من مرسلات ابن عباس ، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه .

وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه ، عن عثمان بن سعيد ، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، به . وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة ، من حديث سليمان بن داود الهاشمي ، به{[5838]} ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها ، فقال{[5839]} الإمام أحمد :

حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي ، عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد ، خلْف المسلمين ، يُجْهزْن {[5840]} على جَرْحى المشركين ، فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر : أنه ليس أحد منا يريد الدنيا ، حتى أنزل الله عز وجل : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعَصَوا ما أمروا به ، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة : سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، وهو عاشرهم ، فلما رهقُوه [ قال : " رَحِمَ اللهُ رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا " . قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل ، فلما رَهقُوه ]{[5841]} أيضا قال : " رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا " . فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه : " مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا " .

فجاء أبو سفيان فقال : اعْلُ هُبَلُ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ " . فقالوا : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قُولُوا : " اللهُ مَوْلانَا ، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم " . ثم قال أبو سفيان : يومٌ بيوْم بَدْر ، يومٌ علينا ويوم لنا{[5842]} ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر . حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ ، وفلان بفلان ، وفلان بفلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا سَوَاء . أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ " . قال أبو سفيان : قد كان{[5843]} في القوم مَثُلَةٌ ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ{[5844]} غير مَلأ منَّا ، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ ، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ ، ولا ساءني ولا سرَّني . قال : فنظروا فإذا حمزةُ قد بُقِرَ بَطْنُه ، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكَلَتْ شَيْئًا ؟ " قالوا : لا . قال : " مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ " .

قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه ، وَجِيء برجل من الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه ، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة ، ثم جيء بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى [ عليه ]{[5845]} ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة ، حتى صلَّى عليه يومئذ سبعين صلاة .

تفرد به أحمد أيضًا{[5846]} .

وقال البخاري : حدثنا عُبَيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق : عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجْلَس النبي صلى الله عليه وسلم جَيْشا من الرُّماة ، وأمَّر عليهم عبد الله - يعني ابن جُبَيْر - وقال : " لا تَبْرَحُوا إنْ{[5847]} رأيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا ، وإنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا " . فلما لقيناهم هربُوا ، حتى رأينا النساء يَشْتَددْنَ{[5848]} في الجبل ، رَفَعْنَ عن سُوقهن ، وقد بدت خَلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمةَ الغَنيمة . فقال عبد الله : عَهدَ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألا تَبْرَحُوا . فأبَوْا ، فلما أبَوْا صَرَفَ وجوههم ، فأُصِيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : " لا تجيبوه " . فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : " لا تُجِيبُوهُ " . فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : إن هؤلاء قد قُتِلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا . فلم يملك عُمَرُ نفسه فقال : كَذَبْتَ يَا عَدَوَّ اللهِ ، قد أبقى الله لك ما يُحزِنكَ{[5849]} فقال أبو سفيان : اعْل هُبَل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أجِيبُوهُ " . قالوا : ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : الله أعْلَى وأجَلُّ " . فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أجِيبُوهُ " . قالوا : ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : اللهُ مَوْلانَا ، وَلا مَوْلَى لَكُمْ " . قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، وتجدون مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني .

تفرد به البخاري من هذا الوجه ، ثم رواه عن عَمْرو بن خالد ، عن زُهَير بن معاوية عن أبي إسحاق ، عن البراء ، بنحوه{[5850]} وسيأتي بأبْسط من هذا .

وقال البخاري أيضا : حدثنا عُبَيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عُرْوة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لَمَّا كان يوم أُحد هُزِم المشركون ، فصَرخَ إبليس : أيْ عباد الله ، أخْرَاكم . فَرَجعت أولادهم{[5851]} فاجْتَلَدَتْ هي وأخراهم ، فَبَصُرَ حُذَيفة فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال : أيْ عباد الله ، أبي أبي . قال : قالت : فوالله ما احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم . قال عروة : فوالله ما زَالَتْ في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل{[5852]} .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جَده أن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم [ هند ]{[5853]} وصواحباتها مُشَمِّرات هوارب ما دون أخْذهن كثير ولا قليل{[5854]} ومالت الرُّماة إلى العسكر حين كَشَفْنا القوم عنه ، يريدون النهب وَخَلَّوا ظهورنَا للخيل فأتتنا من أدبارنا ، وصرخ{[5855]} صارخ : ألا إنَّ محمدًا قد قُتل . فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصَبْنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم .

قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعا ، حتى أخذته عَمْرَة بنت علقمة الحارثية ، فدفعته لقريش فلاثوا{[5856]} به{[5857]} {[5858]} وقال السُّدِّي عن عبد خير قال : قال{[5859]} عبد الله بن مسعود{[5860]} قال : ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت{[5861]} فينا ما نزل يوم أحد { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } .

وقد رُوي من غير وَجْه عن ابن مسعود ، وكذا رُوي عن عبد الرحمن بن عَوْف وأبي طلحة ، رواهن ابن مَرْدُويَه في تفسيره .

وقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } قال ابن إسحاق : حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ، أحدُ بني عديّ بن النجار قال : انتهى أنسُ بنُ النَّضر ، عَمّ أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عُبَيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، قد ألْقَوْا بأيديهم فقال : ما يخليكم{[5862]} ؟ فقالوا : قُتِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه . ثم استقبل القومَ فقاتل حتى قُتِل .

وقال البخاري : حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا محمد بن طلحة ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس بن مالك : أن عمه - يعني أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال : غِبْتُ عن أول قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لَئِنْ أشْهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنّ الله ما أُجدّ فلقي يومَ أحد ، فهُزم الناسُ ، فقال : اللهُمّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرَأ إليك مما جاء به المشركون ، فتقدم بسيفه فَلقي سعدَ بن مُعَاذ فقال : أينَ يا سعد ؟ إني أجدُ ريح الجنة دون أحد . فمضى فَقُتِل ، فما عُرف حتى عَرَفته أخته ببنانه{[5863]} بشامة{[5864]} وبه بضع وثمانون من طَعْنة وضَرْبة ورَمْية بسَهْم .

هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس ، بنحوه{[5865]} .

وقال البخاري [ أيضا ]{[5866]} حدثنا عبدان ، أخبرنا أبو حَمْزَةَ عن عثمان بن مَوْهَب قال : جاء رجل حج البيت ، فرأى قوما جلوسا ، فقال : من هؤلاء القُعُودُ ؟ قالوا : هؤلاء قريش . قال : من الشيخ ؟ قالوا : ابن عُمَر . فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني . قال : أنْشُدُك بحرمة هذا البيت أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم . قال : فَتَعْلَمُه تَغَيَّب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم . قال : فتعْلم أنه تخلف عن بيعة الرّضْوان فلم يشهَدْها ؟ قال : نعم . قال : فكبر ، فقال{[5867]} ابن عمر : تَعَالَ لأخبرَك ولأبيَّن لك عما سألتني عنه . أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه ، وأما تَغَيُّبه عن بدر فإنه كان تحتَه بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت مريضة ، فقال له رسول الله{[5868]} صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَه " . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه ، فبعث عثمانَ ، فكانت{[5869]} بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى : " هِذِهِ يَدُ عُثْمَان " . فضرب بها على يده ، فقال : " هِذِهِ يَدُ عُثْمَان اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ " .

ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عَوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب{[5870]} .


[5823]:في ر: "يقتلونكم".
[5824]:في أ، و: "قال".
[5825]:في و: "بهم".
[5826]:في هـ ر: "أبي عبيد الله"، والصواب ما أثبتناه من المسند.
[5827]:في ر: "والحس الفشل".
[5828]:في جـ، ر، أ، و: (حتى إذا فشلتم - إلى قوله - ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين).
[5829]:زيادة من جـ، ر، أ، والمسند.
[5830]:في و: "يضرب".
[5831]:في أ، و: "كانوا".
[5832]:في جـ: "بتكفيه"، وفي ر: "بتلسعه"، وفي أ، و: "بتكفئه".
[5833]:في ر: "شد".
[5834]:في جـ: "فعاذ عنها"، وفي ر: "فعال عنها".
[5835]:في أ: "وقال".
[5836]:في جـ، ر: "لتزعمون".
[5837]:في جـ، ر، أ، و: "مثلا".
[5838]:المسند (1/287، 288) والمستدرك (2/296) ودلائل النبوة للبيهقي (3/269، 270).
[5839]:في أ: "وقال".
[5840]:في ر: "يجهزون".
[5841]:زيادة من جـ، ر، والمسند.
[5842]:في جـ، ر، أ، و: "يوم لنا ويوم علينا".
[5843]:في جـ، ر: "كانت".
[5844]:في جـ: "على".
[5845]:زيادة من جـ، ر، والمسند.
[5846]:المسند (1/462).
[5847]:في جـ، ر، أ، و: "وإن".
[5848]:في ر: "يشتدن". وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه من البخاري (4043).
[5849]:في جـ، ر: "ما يخزيك".
[5850]:صحيح البخاري برقم (4043) وبرقم (3986).
[5851]:في و: "أولاهم".
[5852]:صحيح البخاري (4065).
[5853]:زيادة من جـ، وسيرة ابن هشام.
[5854]:في جـ، ر، و: "قليل ولا كثير".
[5855]:في جـ: "فصرخ".
[5856]:في جـ، ر: "فلاذوا".
[5857]:في و: "بها".
[5858]:سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 170).
[5859]:في و: "عن".
[5860]:في جـ: "عن عبد خير عنه عبد الله بن مسعود"، وفي ر: "عند جواب عبد الله بن مسعود".
[5861]:في و: "نزل".
[5862]:في جـ، و: "ما يجلسكم"، وفي ر: "ما نحلتكم".
[5863]:في ر: "بثيابه".
[5864]:في جـ، ر، و: "أو بشامة".
[5865]:صحيح البخاري برقم (4048) وصحيح مسلم برقم (1903).
[5866]:زيادة من و.
[5867]:في جـ، ر، و: "قال".
[5868]:في جـ: "النبي".
[5869]:في جـ: "وكانت".
[5870]:صحيح البخاري برقم (4066) وبرقم (3698).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين ، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم ، ولذلك وجوه من الفصاحة : منها وعظ الجميع وزجره ، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر ، ومنها الستر والإبقاء على من فعل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله تعالى -إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولاً ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أُحد ، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين ، وحمل الزبير وأبو دجانة{[3611]} فهزّا عسكر المشركين ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن ابي الأقلح ، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً فهذا معنى قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } والحس : القتل الذريع ، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً ، وحس البرد النبات وقال رؤبة : [ الرجز ]

إذا تَشَكَّوْا سُنَّةً حَسُوسا . . . تَأْكُلُ بَعْدَ الأَخْضَرِ الْيَبِيسا{[3612]}

قال بعض الناس : هو مأخوذ من الحاسة ، والمعنى في حس : أفسد الحواس .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، و «الإذن » : التمكين مع العلم بالممكن منه ، وقوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } يحتمل أن تكون { حتى } غاية مجردة ، كأنه قال : إلى أن فشلتم ، ويقوي هذا أن { إذا } بمعنى «إذ » لأن الأمر قد كان تقضى ، وإنما هي حكاية حال ، فتستغني { إذا } على هذا النظر عن جواب ، والأظهر الأقوى أن { إذا } على بابها تحتاج إلى الجواب ، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل ، واختلف النحاة في جواب { إذا } فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله { تنازعتم } ، والواو زائدة{[3613]} ، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال : الجواب قوله : { صرفكم } و { ثم } زائدة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه ، والخليل وفرسان الصناعة ، إن الجواب محذوف مقدر ، يدل عليه المعنى ، تقديره : انهزمتم ونحوه ، و «الفشل » - استشعار العجز وترك الجد ، وهذا مما فعله يومئذ قوم ، و «التنازع » هو الذي وقع بين الرماة ، فقال بعضهم : الغنيمة الغنيمة ، الحقونا بالمسلمين ، وقال بعضهم : بل نثبت كما أمرنا { وعصيتم } عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين ، وقوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } يعني من هزم القوم ، قال الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة{[3614]} وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم ، وقوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم ، قاله ابن عباس وسائر المفسرين ، وقال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد { منكم من يريد الدنيا } وقوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } إخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالاً للأمر حتى قتلوا ، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين ، وقوله تعالى : { ليبتليكم } معناه : لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص ، وقوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل ، وهذا تحذير ، والمعنى «ولقد عفا عنكم » بأن لم يستأصلوكم ، فهو بمنزلة : ولقد أبقى عليكم ، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد ، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد ، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين ، وقال الحسن بن أبي الحسن : قتل منهم سبعون ، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم ، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم .


[3611]:- أبو دجانة الأنصاري: هو سماك بن خرشة، وقيل: ابن أوس بن خرشة. قال علي: إنه استشهد باليمامة، وهو ممن شاركوا في قتل سلمة، روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأخذه أبو دجانة ففلق به هام المشركين، ولما التحم القتال يوم أحد ذبّ عن النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير حتى قتل، وأبو دجانة حتى كثرت فيه الجراحة. "الإصابة 4/58"
[3612]:- الحسوس: السنة الشديدة: اليبيس: ما يبس من العشب والبقول.
[3613]:-هذا رأي الفراء وجماعة، قاله أبو حيان.
[3614]:- هي زوج أبي سفيان وأم معاوية (انظر الإصابة والاستيعاب)، والخدم: جمع خدمة وهي الخلخال.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

{ ولقد صدقكم } عطف على قوله : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ( التَّاريخ يعيد نفسه ) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] .

وصِدق الوعد : تحقيقُه والوفاءُ به ، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد . قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة [ الأحزاب : 23 ] : { من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } يقال : صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأمَّا المثَل ( صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه ) فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل . فنصب { وعدَه } هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقَكم في وعده ، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى .

والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله : { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] أو بخبر خاصّ في يوم أحُد .

وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب .

و ( إذ ) في قوله : { إذ تحسونهم } نصب على الظرفية لقوله : { صدقكم } أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر ، و ( إذْ ) فيه للمضيّ ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي .

والحَسّ بفتح الحاء القَتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقَيّده في « الكشاف » بالقتل الذريع ، وهو أصوب .

وقوله : { حتى إذا فشلتم } ( حتَّى ) حرف انتهاء وغاية ، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم .

و ( حتَّى ) هنا جارّة و ( إذا ) مجرور بها .

و ( إذا ) اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا ، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله : { تحسونهم } .

و ( إذا ) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله : { منكم من يريد الدنيا } إلى آخرها .

والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه .

والتعريف في قوله : { في الأمر } عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم .

ومعنى { من بعد ما أراكم ما تحبون } أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم . والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم .

والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من ( فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم ) ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب ( إحدى الحسنيين ) ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : { ولقد عفا عنكم } .

وقوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة } تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل ( عصيتم ) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الَّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : { وتنازعتم في الأمر } وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة .

والمراد بقوله : { منكم من يريد الدنيا } إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً ، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط .

وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوَّلين ، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه ، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول .

وإنَّما قال : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه .

وعُقب هذا الملام بقوله : { ولقد عفا عنكم } تسكيناً لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى .

وفي تذييله بقوله : { والله ذو فضل على المؤمنين } تأكيد ما اقتضاه قوله : { ولقد عفا عنكم } والظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التَّوبة ، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان .