قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، وتضعونها في غير موضعها ، ولا تدرون ما هي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه ) . وفي رواية ( لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله عز وجل خياركم ، فلا يستجاب لكم ) .
قال أبو عبيدة : خاف الصديق أن يتأول الناس الآية غير متأولها ، فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأعلمهم أنها ليست كذلك ، وأن الذي أذن لإمساك عن تغييره من المنكر ، هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به ، وقد صولحوا عليه ، فأما الفسوق والعصيان والذنب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه . وقال مجاهد ، وسعيد ابن جبير : الآية في اليهود والنصارى ، يعني : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب ، فخذوا منهم الجزية واتركوهم . وعن ابن عباس قال في هذه الآية : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ما قبل منكم ، فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل منه ، آي : قد مضى تأويلهن قبل أن ينزل ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي وقع تأويلهن بعد رسول الله ، ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان ، ومنه آي : يقع تأويلهن يوم القيامة ، ما ذكر من الحساب ، والجنة ، والنار ، فما دامت قلوبكم ، وأهواؤكم ، واحدة ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنبري ، أخبرنا عيسى بن نضر ، أنا عبد الله بن المبارك ، أنا عتبة بن أبي الحكم ، حدثني عمرو بن جاريه اللخمي ، أنا أبو أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة ، كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قول الله عز وجل { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، فقال : أما والله ، لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لابد لك ، فعليك نفسك ودع أمر العوام ، فإن ورائكم أيام الصبر ، فمن صبر فيهن قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثله قال ابن المبارك : وزادني غيره قالوا : يا رسول الله ، أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .
قيل : نزلت في أهل الأهواء ، قال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء ، فذكر شيئا من أمره ، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه ؟ { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبرًا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا .
قال العَوْفي عن ابن عباس عند تفسر هذه الآية : يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام{[10476]} فلا يضره من ضل بعده ، إذا عمل بما أمرته به .
وكذا{[10477]} روى الوالبي عنه . وهكذا قال مُقَاتِل بن حَيان . فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } نصب على الإغراء { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : فيجازي{[10478]} كل عامل بعمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر .
وليس في الآية مسْتَدلٌّ{[10479]} على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنًا ، وقد قال الإمام أحمد{[10480]} رحمه الله :
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زُهَيْر - يعني ابن معاوية - حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا قَيْس قال : قام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها{[10481]} الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله ، عز وجل ، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه " . قال : وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس ، إياكم والكَذِب ، فإن الكذب مجانب{[10482]} الإيمان .
وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حِبَّان في صحيحه ، وغيرهم{[10483]} من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعًا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق{[10484]} وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره{[10485]} وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق ، رضي الله عنه .
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطَالَقَاني ، وحدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، حدثنا عمرو بن جارية{[10486]} اللخمي ، عن أبي أمية الشَّعْباني{[10487]} قال : أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية ؟ فقال : أيَّة آية ؟ قلت : قوله [ تعالى ]{[10488]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرًا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شُحّا مُطاعًا ، وهَوًى مُتَّبعًا ، ودنيا مُؤْثَرة ، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصّة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " - قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة : قيل يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منهم أو منا ؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " .
ثم قال{[10489]} الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح . وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عتبة بن أبي حكيم . {[10490]}
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله{[10491]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم{[10492]} مقبولة . ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها ، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا - أو قال : فلا يقبل منكم - فحينئذ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ }
ورواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية ، عن ابن مسعود في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية ، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا ، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله يقول : { [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]{[10493]} عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية . قال : فسمعها{[10494]} ابن مسعود فقال : مَهْ ، لم يجئ تأويل هذه بعد{[10495]} إن القرآن أنزل حيث أنزل{[10496]} ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار . فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا ، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا . فإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبسْتُم شيعًا ، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه ، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية . رواه ابن جرير . {[10497]}
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عَرفة ، حدثنا شبابة بن سَوّار ، حدثنا الربيع بن صُبَيْح ، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي أن{[10498]} رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا فليبلّغ الشاهد الغائب " . فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا ، إن قالوا لم يقبل منهم . {[10499]}
وقال أيضًا : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عَوْف ، عن سوَّار بن شَبِيب قال : كنت عند ابن عمر ، إذ أتاه{[10500]} رجل جَليد في العين ، شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو{[10501]} وكلهم بغيض إليه أن يأتي دَناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك . فقال رجل من القوم : وأيّ دناءة تريد أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك ؟
فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، إنما أسأل الشيخ . فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله : لعلك ترى ، لا أبالك ، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ! عظْهم وانههم ، فإن عصوك فعليك نَفْسك{[10502]} فإن الله ، عز وجل يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية .
وقال أيضًا : حدثني أحمد بن المقدام ، حدثنا المعتَمِر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا قتادة ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } فقال أكْبَرهم{[10503]} لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم .
وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحُسَين ، حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن جُبَير بن نُفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأصغرُ القوم ، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن ولا تعرفها ، ولا تدري ما تأويلها ! ! حتى تمنّيت{[10504]} أني لم أكن تكلمتُ ، وأقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حَدَثُ{[10505]} السن ، وإنك نزعت بآية ولا تدري ما هي ؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شُحًّا مطاعًا ، وهَوًى متبعًا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت . {[10506]}
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سَهْل ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة قال : تلا الحسن هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال الحسن : الحمد لله بها ، والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ، ولا مؤمن فيما بقي ، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله .
وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت .
رواه ابن جرير ، وكذا روي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي العُمَيْس ، عن أبي البَخْتَري ، عن حذيفة مثله ، وكذا قال غير واحد من السلف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كعب في قوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال : إذا هدمت كنيسة دمشق ، فجعلت مسجدًا ، وظهر لبس العَصْب ، فحينئذ تأويل هذه الآية .
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } أي احفظوها والزموا إصلاحها ، والجار مع المجرور جعل اسما لإلزموا ولذلك نصب أنفسكم . وقرئ بالرفع على الابتداء . { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام " من رأى منكم منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه " . والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم ، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت . و{ لا يضركم } يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ " لا يضيركم " والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعا لضمه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ { لا يضركم } بالفتح ، و{ لا يضركم } بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره . { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } اختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فقال أبو أمية الشعباني سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآيةا فقال : لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بُخَويصة نفسك ، وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم{[4762]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل الذي لا نظر لأحد معه لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام ، ويظهر من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية أنها لا يلزم معها أمر بمعروف ونهي عن منكر ، فصعد المنبر فقال أيها الناس لا تغتروا بقول الله { عليكم أنفسكم } فيقول أحدكم عليَّ نفسي ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب{[4763]} ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : ليس هذا بزمان هذه الآية ، قولو الحق ما ُْقِبل منكم ، فإذا ُرَّد عليكم فعليكم أنفسكم{[4764]} ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : ليبلغ الشاهد الغائب ، ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل{[4765]} .
قال القاضي أبو محمد : وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى ُرجي القبول أو ُرجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المرء ضرراً يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس ، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم بحكم واجب أن يوقف عنده ، وقال سعيد بن جبير معنى هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } فالتزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف وغيره ، ولا يضركم ضلال أهل الكتاب إذا اهتديتم وقال ابن زيد : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم ، قال : وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت أباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ولم يقل أحد فيما علمت أنها آية موادعة للكفار ، وكذلك ينبغي أن لا يعارض أنها شيء مما أمر الله به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، قال المهدوي : وقد قيل هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ولا يعلم قائله ، وقال بعض الناس نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي سرح وغيره ، فقيل للمؤمنين لا يضركم ضلالهم ، وقرأ جمهور الناس «لا يضُرُّكم » بضم الضاد وشد الراء المضمومة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «لا يضُرْكم » بضم الضاد وسكون الراء ، وقرأ إبراهيم «لا يضِرك » بكسر الضاد وهي كلها لغات بمعنى ضر يضر وضار يضور وضير ، وقوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً } الآية ، تذكير بالحشر وما بعده ، وذلك مسل عن أمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها ، وروي عن بعض الصالحين أنه قال : ما من يوم إلا يجيء الشيطان فيقول : ما تأكل وما تلبس وأين تسكن ؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر .
قال القاضي أبو محمد : فمن فكر في مرجعه إلى الله تعالى فهذه حاله .
تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة ، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير ، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه ، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة ، كما قال تعالى : { إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] .
و { عليكم } اسم فعل بمعنى الزَموا ، وذلك أنّ أصله أن يقال : عليك أن تفعل كذا ، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر ، وتكون ( على ) دالّة على استعلاء مجازي ، كأنّهم جعلوا فعل كذا معتلياً على المخاطب ومتمكّناً منه تأكيداً لمعنى الوجوب فلمّا كثر في كلامهم قالوا : عليك كذا ، فركّبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير : عليك فعل كذا ، لأنّ تلك الذات لا توصف بالعلوّ على المخاطب ، أي التمكّن ، فالكلام على تقدير . وذلك كتعلّق التحريم والتحليل بالذوات في قوله : { حرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] ، وقوله { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] ، ومن ذلك ما روي { عليكم الدعاء وعليّ الإجابة } ومنه قولهم : عليّ أليّة ، وعليّ نذر . ثم كثر الاستعمال فعاملوا ( على ) معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية . وشاع ذلك في كلامهم فسمّاها النحاة اسم فعل لأنّها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص ، فكأنّك عمدت إلى فعل ( الزم ) فسميّته ( عَلَى ) وأبرزت مَا مَعه من ضمير فألصقته ب ( عَلى ) في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتّصل بها ، وهو ضمير الجرّ فيقال : عليك وعليكما وعليكم . ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأنّ الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر .
فقوله تعالى : { عليكم أنفسكم } هو بنصب { أنفسكم } أي الزموا أنفسكم ، أي احرصوا على أنفسكم . والمقام يبيّن المحروص عليه ، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله : { إذا اهتديتم } ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله : { لاَ يضرّكم من ضلّ } .
فجملة { لا يضرّكم من ضلّ } تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت ، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء ، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم ، ففعل { يضرّكم } مرفوع .
وقوله : { إذا اهتديتم } ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق ب { يضرّكم } . وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى . ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم .
فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة . فكان ذلك داخلاً في شرط { إذا اهتديتم } . ولما في قوله { عليكم أنفسكم } من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ { من ضلّ } ، ولما في قوله { إذا اهتديتم } من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء ؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال : سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي : سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام " وَحَدَثَ في زَمَن أبي بكر : أخرَجَ أصحابُ « السنن » أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { يأيّها الناس إنّكم تَقْرَأونَ هذه الآية { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم } وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده . وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة ( أي النصيحة ) ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يُقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم ( يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم ) . وعنه أيضاً : إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسه . وعن عبد الله بن عمر أنه قال : إنّها ( أي هذه الآية ) ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال : " ألا ليبلّغ الشاهد الغائب " فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم .
فماصْدقُ هذه الآية هو مَاصْدقُ قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر : " من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير دون ضُرّ يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة . فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقّق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك ، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني ، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي بدون جدوى ، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفاً .
وقوله : { إلى الله مرجعكم جميعاً } عذر للمهتدي ونذارة للضالّ . وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين ، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله : { جميعاً } للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب . والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير ، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة .
والمرجع مصدر ميمي لا محالة ، بدليل تعديته ب { إلى } ، وهو ممّا جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل ، لأنّ المشهود في الميمي مِن يَفعِل بكسر العين أن يكون مفتوح العين .