التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 105 ) } ( 105 ) .

تعليق على الآية :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . }

وما ورد في صددها من أحاديث وما فيها من تلقين .

في الآية هتاف للمسلمين بأنهم إذا كانوا مهتدين بهدي الله ورسوله ، فلا يضرهم من كفر وسلك غير سبيل الحق والهدى . فالجميع مرجعهم إلى الله تعالى وحينئذ ينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه بما استحقوا .

ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآية . والمتبادر المستلهم من فحواها وروحها ومقامها أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستدراك وتسلية ؛ حيث تقول للمسلمين إن الكفار إذا كانوا يسيرون في تلك التقاليد ويعزونها إلى الله كذبا ويتمسكون بما كان عليه آباؤهم من سخف وضلال فأنتم غير مسئولين عنهم ، وإنما أنتم مسئولون عن أنفسكم . وإن عليكم أن تسيروا وفق ما أنزل الله دون أن تأهبوا بضلال الضالين وجحود الجاحدين .

على أن الآية في حد ذاتها جملة مستقلة تامة المدى أيضا . وقد اعتبرها المؤولون والمفسرون كذلك ، وأرادوا الكلام في صددها على هذا الاعتبار .

ولقد أورد المفسرون ( 1 ){[890]} . روايات عديدة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في مدى هذه الآية يستفاد منها أن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة لأهل الكتاب أو لأهل كل ملة ضالة . فما داموا مؤمنين مهتدين بهدي الله ورسوله فلا يضرهم ضلال غيرهم من أهل الملل الأخرى ، وأن هناك من اعتبرها خطابا لجميع المسلمين بالنسبة إلى بعضهم بشرط أن يبذل المهتدون بهدى الله ورسوله منهم جهودهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح وتقويم ما يكون في جماعات من المسلمين أو أفرادهم من فساد وبغي وانحراف عن ذلك الهدى ، فإن عجزوا فعليهم أنفسهم فلا يضرهم ذلك الفساد والانحراف ما داموا مهتدين .

والقول الأول فيما يتبادر لنا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومقام ورودها . وفيها كما قلنا تسلية لجميع المسلمين عن ضلال غيرهم من جهة ، وحث على وجوب تمسكهم بهدى الله ورسوله ، وعدم الانحراف عنه من جهة ، وتوطيد لحرية الدين فيما يتبادر لنا من جهة ، وتوكيد لما استلهمناه من آيات كثيرة سابقة ونبهنا عليه من أن المسلمين غير مكلفين بمحاربة من لم يسلم من أهل الملل والأخرى بسبب عدم إسلامه فقط .

ولا يعني هذا رفع واجب الدعوة عن المسلمين إلى الإسلام . فالدعوة واجب مستمر الوجوب على المسلمين في كل ظرف ومكان . سواء في ذلك أفرادهم وهيئاتهم وحكوماتهم في النطاق القرآني وهو : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ( النحل : 125 ) . فوعد الله عز وجل بإظهار دينهم على الدين كله إنما يتحقق بذلك . وهذا فضلا عما في القرآن والسنة من نصوص صريحة في هذا من حيث رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي عامة شاملة . وقد أمر بإبلاغها وصار ذلك واجب المسلمين من بعده . على أن هذا القول لا يتعارض مع القول الثاني أيضا ولا يضعف وجاهته . ولا سيما أن هناك أحاديث نبوية وصحابية يوردها رواة الحديث ومفسرو القرآن في سياق الآية ، بل فيها ما هو صريح بأنه ذو علاقة بها . منها حديثان رواهما الترمذي وأبو داود : أحدهما عن أبي بكر قال : ( إنكم تقرأون هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) ( 1 ){[891]} . وثانيهما عن أبي أمية الشعباني قال : ( سألت أبا ثعلبة عن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الآية فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك . ودع العوام . فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم . قيل : يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم ) ( 1 ){[892]} .

وحديث رواه النسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال : ( بينما نحن حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكرت الفتنة فقال إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه ، فقمت إليه وقلت : كيف أفعل عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك ؟ قال : الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ) ( 2 ){[893]} . وهناك أحاديث أخرى أوردها المفسرون ها هنا حديث رواه الطبري وأورده عن أبي بكر قال : ( يا أيها الناس لا تغتروا بقول الله { عليكم أنفسكم } فيقول أحدكم علي نفسي والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب ثم ليدعو خياركم الله فلا يستجيب لهم ) وحديث رواه الخازن عن ابن مسعود قال : ( مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم ، فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم )ومنها حديث رواه الطبري عن الحسن قال : ( إن هذه الآية قرئت على ابن مسعود فقال : ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم ، فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم ) وحديث رواه الطبري عن سفيان بن عقال قال : ( قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : إنها ليست لي ولا لأصحابي ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، وكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم ) . وحديث رواه البغوي عن ابن عباس في الآية : ( مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ) . وحديث رواه الخازن عن عبد الله بن المبارك : ( أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هذه الآية ، فإن الله قال فيها عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره من القبائح والمكروهات ) .

وظاهر أن في الأحاديث ما يزيل كل وهم يمكن أن يحيك في صدر أحد بأن الآية تخاطب أفراد المسلمين وتوعز إليهم بالاكتفاء بما يكون عليه الواحد منهم من عافية في أمر دينه ودنياه وعدم الأبوه لما يكون من انحراف غيره من بني دينه وضلاله عن جادة الحق والاستقامة . ويتأكد هذا المعنى بآية آل عمران ( 74 ) التي توجب على المسلمين أن يكون منهم دائما جماعات يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبوية أوردناها في سياق تفسير هذه الآية .


[890]:الطبري أكثرهم استيعابا لها. انظر أيضا البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
[891]:التاج ج 4 ص 95 وفي رواية الطبري أن أبا بكر قال: (والله ما أنزل الله في كتابه أشد منها).
[892]:التاج ج 4 ص 95، 96.
[893]:التاج ج 5 ص 205 ويمكن أن يقال في التوفيق بين هذا الحديث والذي قبله: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد بالثاني الحالة التي يصل الأمر فيها من الفساد وخفة الأمانة واختلاف الناس وشدة الفتنة إلى الحد الذي لا يسمع فيها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وروح الحديث ونصه يؤيدان ذلك. والله أعلم.