الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية

اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر .

وقال ضمرة بن ربيعة : تلا الحسن هذه الآية ، وقال : الحمد للّه لها والحمد للّه عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جانبه منافق يكره عمله .

وقال بعضهم : معناها عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة اللّه ، { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر .

أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية : إذا أمرتم ونهيتم .

وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال : قال أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) على المنبر : إنكم تقرأون هذه الآية { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية وتضعونها غير موضعها ، ولا تدرون ماهي ، وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه عمّهم اللّه بعقاب ، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول اللّه { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } فيقول أحدكم : عليّ نفسي ، واللّه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو [ ليستعملن ] عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب ، ثم ليدعنّ اللّه خياركم فلا يستجيب لهم " يدل عليه حديث أبي هريرة قال : " قلنا : يا رسول اللّه إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ عملنا به ولا من المنكر شيء إلاّ انتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبداً .

فقال ( عليه السلام ) : " فمروا بالمعروف فإن لم [ يقبلوا به ] كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله " وقيل : معنى الآية : عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم .

قال شقيق بن عقد : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيّام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه قال { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } .

فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي ، لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : " ألا فليبلغ الشاهد الغائب " فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم .

وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } ، فقال ابن مسعود : ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل حين نزل ، فمنه آي قد مضى تأويلهن ، ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ، ومنه آي يقع في آخر الزمن ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ، ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وأُلبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية .

قال أبو أميّة السمعاني : سمعت أبا ثعلبة [ الخشني ] عن هذه الآية { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } .

فقال أبو ثعلبة : سألت عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : " ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت ديناً موثراً وشحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ، وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة اللّه لم يضره من ضل بعده ، وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل " . قالوا : يا رسول اللّه كأجر خمسين عاملاً منهم ؟ قال : " لا بل كأجر خمسين عاملاً منكم " .

وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في أهل الأهواء .

وقال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئاً من أمره ، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة اللّه التي تخص بها أولياءه ، { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية .

وقال الضحّاك : عليكم أنفسكم إذا اختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط .

وقال ابن جبير : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب .

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس " إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام ، فكتب إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " أما العرب فلا تقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية " فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية ، فقال في ذلك : منافقو أهل مكة وقالوا : عجباً من محمد يزعم أن اللّه تعالى بعثه ليقاتل الناس ، حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه ، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية ، هلاّ أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب ؟

فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل اللّه تعالى { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر ، وأنزل بعد ما أسلم العرب . { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [ البقرة : 256 ] .

وقال ابن عباس : نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا : سفهت أباك ، وضللت ، وفعلت وفعلت فأنزل اللّه { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } وهذه لفظة إغراء ، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك .

ثم قال { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } الضال والمهتدي { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .