فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

أي الزموا أنفسكم أو احفظوها كما تقول عليك زيداً : أي الزمه ، قرئ { لاَ يَضُرُّكُمْ } بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدلّ عليه اسم الفعل . وقرأ نافع وغيره بالرفع على أنه مستأنف ، كقول الشاعر :

فقال رائدهم أرسوا نزاولها *** . . .

أو على أن ضم الراء للاتباع ، وقرئ : { لاَ يَضُرُّكُمْ } بكسر الضاد ، وقرئ : «لا يضيركم » والمعنى : لا يضركم ضلال من ضلّ من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم ، وليس في الآية ما يدلّ على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد . وقد قال الله سبحانه : { إِذَا اهتديتم } وقد دلت الآيات القرآنية ، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً متحتماً ، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال ، أو يخشى على نفسه أن يحلّ به ما يضرّه ضرراً يسوغ له معه الترك { إلى الله مَرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُمْ } بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد ابن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والدارقطني والضياء ، في المختارة وغيرهم ، عن قيس بن أبي حازم قال : قام أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : { يا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } وإنكم تضعونها على غير مواضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " وفي لفظ لابن جرير عنه : " والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليعمنكم الله منه بعقاب " وأخرج الترمذي وصححه ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والبغوي في معجمه ، وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعثاني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ؟ قلت : قوله : { يا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهنّ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم " .

وفي لفظ : قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ؟ قال : «بل أجر خمسين منكم » وأخرج أحمد وابن أبي حاتم ، والطبرني وابن مردويه ، عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى ، فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال : ما حبسك ؟ قال : يا رسول الله قرأت هذه الآية : { يا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } قال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أين ذهبتم ؟ إنما هي لا يضرّكم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم » وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ عن الحسن : أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } فقال : يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا ، أو قال : فلا يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم .

وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عنه في الآية قال : «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف ، فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم » وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن عمر ، أنه قال في هذه الآية : إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن رجل قال : كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال أُبيّ بن كعب ، فقرأ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } فقال : إنما تأويلها في آخر الزمان . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } فقال أكثرهم : لم يجيء تأويل هذه الآية اليوم . وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم ، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت : أليس الله يقول : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد فقالوا : تنزع آية من القرآن لا نعرفها ولا ندري ما تأويلها ؟ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت ، ثم أقبلوا يتحدّثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن ، وإنك نزعت آية لا ندري ما هي ؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان «إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت » وأخرج ابن مردويه ، عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي ثعلبة الخشني المتقدّم ، وفي آخره : «كأجر خمسين رجلاً منكم » وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري قال : ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لم يجيء تأويلها ، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام » ، والروايات في هذا الباب كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية ، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .