قوله تعالى : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } ، من ذكر أو أنثى ، سوي الخلق أو ناقص الخلق ، واحدا أو اثنين أو أكثر { وما تغيض الأرحام } ، أي ما تنقص { وما تزداد } . قال أهل التفسير : غيض الأرحام : الحيض على الحمل ، فإذا خاضت الحامل كان نقصانا في الولد ، لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم ، فإذا أهرقت الدم ينقص الغذاء فينتقص الولد ، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم ، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم ، والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم . وقيل : إذا حاضت ينتقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر ظاهرا ، فإن رأت خمسة أيام دما وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام ، فالنقصان في الغذاء ، والزيادة في المدة . وقال الحسن : غيضها : نقصانها من تسعة أشهر ، والزيادة : زيادتها على تسعة أشهر . وقيل النقصان : السقط ، والزيادة : تمام الخلق . وأقل مدة الحمل : ستة أشهر ، فقد يولد المولود لهذه المدة ويعيش . واختلفوا في أكثرها : فقال قوم : أكثرها سنتان ، وهو قول عائشة رضي الله عنها ، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله . وذهب جماعة إلى أن أكثرها أربع سنين ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله ، قال حماد بن سلمة . إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين . { وكل شيء عنده بمقدار } ، أي : بتقدير وحد لا يجاوزه ولا يقصر عنه .
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء ، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات ، كما قال تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } [ لقمان : 34 ] أي : ما حملت من ذكر أو أنثى ، أو حسن أو قبيح ، أو شقي أو سعيد ، أو طويل العمر أو قصيره ، كما قال تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ النجم : 32 ] .
وقال تعالى : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } [ الزمر : 6 ] أي : خلقكم طورا من بعد طور ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 12 : 14 ] وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله{[15457]} صلى الله عليه وسلم : " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات : يَكْتب رزقه ، وعمره ، وعمله ، وشقي أو سعيد " {[15458]} .
وفي الحديث الآخر : " فيقول الملك : أيْ رب ، أذكر أم أنثى ؟ أي رب ، أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك " {[15459]} .
وقوله : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } قال البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا مَعْن ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها{[15460]} إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " {[15461]} .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ } يعني : السَقْط { وَمَا تَزْدَادُ } يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما . وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد في الحمل ، ومنهن من تنقص ، فذلك الغيض{[15462]} والزيادة التي ذكر الله تعالى ، وكل ذلك بعلمه تعالى .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } قال : ما نقصت من تسعة وما زاد عليها .
وقال الضحاك : وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين ، وولدتني وقد نبتت ثنيَّتي .
وقال ابن جُرَيْج ، عن جميلة بنت سعد ، عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين ، قدر ما يتحرك ظِل مغْزَل .
وقال مجاهد : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } قال : ما ترى من الدم في حملها ، وما تزداد على تسعة أشهر . وبه قال عطية العوفي وقتادة ، والحسن البصري ، والضحاك .
وقال مجاهد أيضا : إذا رأت المرأة الدم دون التسعة زاد على التسعة ، مثل أيام الحيض . وقاله عِكْرِمة ، وسعيد بن جبير ، وابن زيد .
وقال مجاهد أيضا : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ } إراقة المرأة حتى يخس الولد { وَمَا تَزْدَادُ } إن لم تهرق المرأة تم الولد وعظم .
وقال مكحول : الجنين في بطن أمه لا يطلب ، ولا يحزن ولا يغتم ، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها{[15463]} فمن ثم لا تحيض الحامل . فإذا وقع إلى الأرض استهل ، واستهلاله استنكار{[15464]} لمكانه ، فإذا قطعت سرته حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم ، ثم يصير طفلا يتناول الشيء بكفه فيأكله ، فإذا هو بلغ قال : هو الموت أو القتل ، أنَّى لي بالرزق ؟ فيقول مكحول : يا ويلك{[15465]} ! غَذاك وأنت في بطن أمك ، وأنت طفل صغير ، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت : هو الموت أو القتل ، أنى لي بالرزق ؟ ثم قرأ مكحول : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }
وقال قتادة : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } أي : بأجل ، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم ، وجعل لذلك أجلا معلومًا .
وفي الحديث الصحيح : أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه : أن ابنا لها في الموت ، وأنها تحب أن يحضره . فبعث إليها يقول : " إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، فمروها
فلتصبر ولتحتسب " الحديث بتمامه{[15466]}
ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره ، تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه وإنما لم ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد ، وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة . { وما تغيض الأرحام وما تزداد } وما تنقصه وما تزداده في الجنة والمدة والعدد ، وأقصى مدة الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي حنيفة . روي أن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان لأربع سنين وأعلى عدده لا حد له . وقيل نهاية ما عرف به أربعة وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقال الشافعي رحمه الله أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة . وقيل المراد نقصان دم الحيض وازدياده ، وغاض جاء متعديا ولازما وكذا ازداد قال تعالى : { وازدادوا تسعا } فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية . وإسنادهم إلى الأرحام على المجاز فإنهما لله تعالى أو لما فيها . { وكل شيء عنده بمقدار } بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين ، وهيأ له أسبابا مسوفة إليه تقتضي ذلك . وقرأ ابن كثير { هادٍ } { ووالٍ } و{ وواق } { وما عند الله باقٍ } بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير ، والباقون يصلون ويقفون بغير ياء .
لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور - قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث :
فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب ، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث ، من الأجنة من كل نوع من الحيوان ؛ وهذه البدأة{[6911]} تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة .
و { ما } في قوله : { ما تحمل } يصح أن تكون بمعنى الذي ، مفعولة { يعلم } ويصح أن تكون مصدرية ، مفعولة أيضاً ب { يعلم } ، ويصح أن تكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، والخبر : { تحمل } وفي هذا الوجه ضعف{[6912]} .
وفي مصحف أبي بن كعب : «ما تحمل كل أنثى وما تضع » .
وقوله : { وما تغيض الأرحام } معناه : ما تنقص ، وذلك أنه من معنى قوله : { وغيض الماء }{[6913]} [ هود : 44 ] وهو بمعنى النضوب فهي - هاهنا - بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه ، فلما قابله قوله : { وما تزداد } فسر بمعنى النقصان : ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان : فقال مجاهد «غيض الرحم » أن يهرق دماً على الحمل ، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب ، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم ، فهذا هو معنى قوله : { وما تغيض الأرحام وما تزداد } وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل .
وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض ، فيكون قوله : { وما تزداد } - بعد ذلك - جارياً مجرى { تغيض } على غير مقابلة ، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه .
وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاماً في خلقه .
وقال قتادة : الغيض : السقط ، والزيادة : البقاء بعد تسعة أشهر .
وقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } لفظ عام في كل ما يدخله التقدير .