البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ} (8)

مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم آية وكم آية نزلت ، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر ، وقدرته النافذة ، وحكمته البليغة ، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر ، فلا يقترحون غيرها ، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره الله تعالى .

وقيل : مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض ، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها ، نبه على إحاط علمه ، وأن من كان عالماً بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ .

وقيل : مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات ، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة .

قال ابن عطية : قص في هذا المثل المنبه عل قدرة الله القاضية بتجويز البعث ، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني : التي لا يعلمها إلا هو ، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان .

وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة .

والله يعلم : كلام مستأنف مبتدأ وخبر ، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون الله خبر مبتدأ محذوف أي : هو الله تعالى ، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال : يعلم .

ويعلم هنا متعدية إلى واحد ، لأنه لا يراد هنا النسبة ، إنما المراد تعلق العلم بالمفردات .

وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي ، والعائد عليها في صلاتها محذوف ، ويكون تغيض متعدياً .

وأن تكون مصدرية ، فيكون تغيض وتزداد لا زمان .

وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب .

وأن تكون استفهاماً مبتدأ ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه ، والجملة في موضع المفعول .

وتحمل هنا من حمل البطن ، لا من الحمل على الظهر .

وفي مصحف أبي : ما تحمل كل أنثى ، وما تضع وتحمل على التفسير ، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف .

قال ابن عباس : تغيض تنقص من الخلقة ، وتزداد تتم .

وقال مجاهد : غيض الرحم أن ينهرق دماً على الحمل ، فيضعف الولد في البطن ويسحب ، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم ، انتهى كلام ابن عباس .

وقال عكرمة : تغيض بطهور الحيض في الحبل ، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع .

وقال قتادة : الغيض السقط ، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر .

وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة .

وعن الضحاك أيضاً : الغيض النقص من تسعة أشهر ، والزيادة إلى سنتين .

وقيل : من عدد الأولاد ، فقد تحمل واحداً ، وقد تحمل أكثر .

وقال الجمهور : غيض الرحم الدم على الحمل .

قال الزمخشري : إن كانت ما موصولة فالمعنى : أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخدج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقبة .

ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه ، وما تزداد أي تأخذه زائداً تقول : أخذت منه حقي وازددت منه كذا ، ومنه : { وازدادوا تسعاً } ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد .

وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة .

ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه .

ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاماً ومخدجاً ، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر ، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك .

وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً ومنه الدم فإنه يقل ويكثر .

وإن كانت مصدرية فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله .

ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر .

وعنه : الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ولد التمام انتهى .

وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقاً .

وبمقدار يقدر ، ويطلق المقدار على القدر ، وعلى ما يقدر به الشيء .

والظاهر عموم قوله : وكل شيء عنده بمقدار ، أي : بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه .

وقال ابن عباس : وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي : بقدر الطاعة والمعصية .

وقال الضحاك : من الغيض والازدياد .

وقال قتادة : من الرزق والأجل .

وقيل : صحة الجنين ومرضه ، وموته ، وحياته ، ورزقه ، وأجله .

والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص ، لأنه لا دليل عليه .

والمراد من العندية العلم أي : هو تعالى عالم بكمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات .

وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه ، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية .