اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ} (8)

قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } الآية في النَّظم وجوهٌ :

أحدها : أنَّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام بين أنَّه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الآخرى للاسترشاد ، وطلب البيان أظهرها ، وما منعها ، لكنه تعالى عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد ؛ فلذلك منعهم ، ونظيره قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } [ يونس : 20 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } [ العنكبوت : 50 ] .

وثانيها : أنه تعالى لما قال : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } [ الرعد : 5 ] في إنكار البعث بسبب أنَّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرَّق ، وتختلط بعضها ببعض ، ولا يتميَّز ، فبين الله تعالى أنه إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات فأمّضا من : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } كيف لا يميزها ؟ .

وثالثها : أنَّه متصلٌ بقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } [ الرعد : 6 ] .

والمعنى : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فهو إنَّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه .

قوله : { الله يَعْلَمُ } يجوز في الجلالة وجهان :

أحدهما : أنَّها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وهذا على قول من فسَّر " هادٍ " بأنه هو الله [ تعالى ، فكان هذه الجملة تفسير له ، وهذا [ ما ] عنى الزمخشري بقوله : وأن يكون المعنى : هو الله ] تفسيراً ل " هادٍ " على الوجه الأخير ، ثم ابتدأ فقال : " يَعْلمُ " .

والثاني : أنَّ الجلالة مبتدأ " ويَعْلمُ " خبرها ، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ .

قال أبو حيَّان ، " و " يَعْلمُ " هاهنا متعدية إلى واحدٍ ؛ لأنَّه لا يراد هنا النسبة إنَّما المراد تعلق العلم بالمفردات " .

قال شهاب الدين رحمه الله : " وإذا كانت كذلك ، كانت غير فائتة " وقد تقدَّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله عزَّ وجلَّ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه .

قوله : " مَا تَحْمِلُ " " مَا " تحتمل ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أن تكون موصولة أسمية ، والعائد محذوف ، أي : ما تحمله .

والثاني : أن تكون مصدرية ، فلا عائد .

والثالث : أن تكون استفهامية ، وفي محلها وجهان :

أحدهما : أنها في محلِّ رفع بالابتداء ، و " تَحْمِلُ " خبره ، والجملة معلقة للعلم .

والثاني : أنها في محلِّ نصب ب " تَحْمِلُ " قاله أبو البقاء .

وهو أولى ؛ لأنَّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيَّما عند البصريين ؛ فإنهم لا يجيزون زيداً ضَرَبتُ .

ولم يذكر أبو حيان غير هذا ، ولم يتعرض لهذا الاعتراض .

و " مَا " في قوله : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } محتملة للأوجه المتقدِّمة و " غاض ، وزاد " سمع تعدِّيهما ، ولزومهما ، ولك أن تدَّعي حذف العائد على القول بتعديهما ، وأن تجعلهما مصدريّة عل القول بمصدريتها .

فصل

إذا كانت " مَا " موصولة فالمعنى : أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو ذكرٌ ، أم أثنى ، أم ناقصٌ ، وحسنٌ ، أم قبيحٌ ، وطويلٌ ، أم قصيرٌ أو غير ذلك من الأحوال .

وقوله سبحانه : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } الغيضُ : النقصان سواء كان لازماً ، أو متعدياً فيقال : غاض الماء وغضته أنا ، ومنه قوله تعالى : { وَغِيضَ المآء } [ هود : 44 ] والمعنى : ما تغضيه الأرحام إلاَّ أنه حذف الرَّافع .

و " مَا تَزْدادُ " ، أي تأخذه زيادة ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا ، ومنه قوله تعالى : { وازدادوا تِسْعاً } [ الكهف : 25 ] .

ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم ، وما تزداده على وجوهٍ :

الأول : عدد الولد فإنَّ الرَّحم قد يشتمل على واحدٍ ، وعلى اثنين ، وثلاثة ، وأربعة .

يروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه .

الثاني : عند الولادة قد تكون زائدة ، وقد تكون ناقصة .

الثالث : [ مدة الولادة ] قد تكون تسعة أشهر [ فأزيد ] إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله وإلى أربع عند الشافعي رضي الله عنه ، وإلى خمس عند مالكٍ رضي الله .

قيل : إنَّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمِّه أربع سنين ، ولذلك سميي هرماً .

الرابع : الدم ؛ فإنه تارة يقلُّ ، وتارة يكثرُ .

الخامس : ما ينقصُ بالسَّقط من غير أن يتم ، وما يزداد بالتَّمامِ .

السادس : ما ينقصُ بظهور دم الحيض ؛ لأنَّه إذا سال الدَّم في وقت الحمل ضعف الولد ، ونقص بمقدار ذلك النقصان ، وتزداد أيام الحمل ، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النُّقصان .

قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : " كلَّما سال الحيضُ في وقت الحمل يوماً ، زاد في مدَّة الحمل يوماً ، ليحصل الجبرُ ، ويعتدلُ الأمر " .

وهذا يدلُّ على أنَّ الحامل تحيضُ ، وهو مذهب مالكٍ ، وأحد قولي الشَّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية : إنَّه حيض الحبالى ، وهو قول عائشة رضي الله عنها وأنها كانت تفتي النِّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصَّلاة .

وقال المخالف : لو كانت الحاملُ تحيض مكان ما تراه المرأة من الدَّم حيضاً ، لما صحَّ استراءُ الأمة بحيضة ، وهذا بالإجماع .

السابع : أن دم الحيض فضلة تجتمع في [ بطن ] المرأة ، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات ؛ فاضت ، وخرجت ، وسالت من دواخل تلك العروض ، ثم إذا سالت تلك المواد ، امتلأت تلك العروض مرَّة أخرى .

هذا كلُّه إذا قلنا : إن " ما : موصولة .

فإذا قلنا : إنَّها مصدرية : فالمعنى أنَّه تعالى يعلمُ حمل كلَّ شيءٍ ، ويعلم غيض الأرحام ، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولا أوقاته ، وأحوالهن .

ثم قال : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة : العلم ومعناه : أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه تعالى خصَّص كل حادث بوقت معين ، وحال معينة بمشيئة الأزليَّة وإرادته السرمدية .

وعند حكماء الإسلام : أنه تعالى وضع أشياء كلّيّة ، وأودع فيها قوى ، وخواصَّ ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزيئة متعينة ومناسبات مخصوصة [ مقدرة ] ، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ ، وأحوالهم ، وخواطرهم ، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ .

قوله : " عِنْدَهُ " يجوز أن يكون مجرور المحل صفة ل " شَيْءٍ " ، أو مرفوعة صفة ل " كُلُّ " ، أو منصوبة ظرفاً لقوله : " بِمقْدارٍ " ، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً .