معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } أي : ينزل بكم الموت ، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } فرد الله تعالى عليهم بقوله : { أينما تكونوا يدرككم الموت } .

قوله تعالى : { ولو كنتم في بروج مشيدة } ، والبروج : الحصون والقلاع ، والمشيدة : المرفوعة المطولة ، قال قتادة : معناه في قصور محصنة ، وقال عكرمة : مجصصة ، والشيد : الجص .

قوله تعالى : { وإن تصبهم حسنة } ، نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ، ومزارعنا ، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال الله تعالى : { وإن تصبهم } يعني : اليهود { حسنة } أي خصب ورخص في السعر .

قوله تعالى : { يقولوا هذه من عند الله } ، لنا .

قوله تعالى : { وإن تصبهم سيئة } يعني : الجدب وغلاء الأسعار .

قوله تعالى : { يقولوا هذه من عندك } أي : من شؤم محمد وأصحابه ، وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر ، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، ( يقولوا هذه من عندك ) أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد ، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين . قوله تعالى : { قل } لهم يا محمد .

قوله تعالى : { كل من عند الله } . أي : الحسنة والسيئة كلها من عند الله ، ثم عيرهم بالجهل فقال قوله تعالى : { فمال هؤلاء القوم } يعني : المنافقين واليهود قوله تعالى { لا يكادون يفقهون حديثاً } أي : لا يفقهون قولاً ، وقيل : الحديث هاهنا هو القرآن أي : لا يفهمون معاني القرآن . قوله : { فمال هؤلاء } قال الفراء : كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها ، وأنهما حرف واحد ، ففصلوا اللام مما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والاتصال القراءة ، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

وقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ ]{[7906]} } [ الرحمن : 26 ، 27 ] وقال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] والمقصود : أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء ، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، وأمدا مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء{[7907]} .

وقوله : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : حصينة منيعة عالية رفيعة . وقيل : هي بروج في السماء . قاله السدي ، وهو ضعيف . والصحيح : أنها المنيعة . أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى :{[7908]}

وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا*** ولو رَامَ أسبابَ السماء بسُلَّم{[7909]}

ثم قيل : " المشَيَّدَة " هي المَشِيدَة كما قال : " وَقَصْرٍ مَشِيدٍ " [ الحج : 45 ] وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد ، هي : المطولة ، وبالتخفيف هي : المزينة بالشيد وهو الجص .

وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد : أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج ، فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ، ثم يتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فَكَرَّ راجعا ، فبعج الجارية بسكين في بطنها ، فشقه ، ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها ، فبرئت وشبت وترعرعت ، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها{[7910]} فذهب ذاك [ الأجير ]{[7911]} ما ذهب ، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة . فقالت له : ليس هنا أحسن من فلانة . فقال : اخطبيها علي . فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه{[7912]} ؟ فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في هربه . فقالت : أنا هي . وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما ، إحداهما : أنك قد زنيت بمائة رجل . فقالت : لقد كان شيء من ذلك ، ولكن لا أدري ما عددهم ؟ فقال : هم مائة . والثانية : أنك تموتين بالعنكبوت . فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ، ليحرزها من ذلك ، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف ، فأراها إياها ، فقالت : أهذه التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء{[7913]} فوقع بين ظفرها ولحمها ، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها{[7914]} .

ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر ، وهو " الساطرون " لما احتال عليه " سابور " حتى حصره فيه ، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها :

وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دج*** لة تُجْبَى إليه والخابورُ

شاده مَرْمَرا وجلله كلْ***سا فللطير في ذُرَاه وُكُور

لم تَهَبْهُ أيدي المنون فباد ال***مُلْكُ عنه فبابُه مَهْجور

ولما دخل على عثمان جعل يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، ثم تمثل بقول الشاعر :

أرى الموتَ لا يُبقي عَزيزا ولم يَدَعْ*** لعاد ملاذَّا في البلاد ومَرْبَعا . . .

يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ*** ويأتي الجبالَ في شَماريخها معا{[7915]}

وقوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو{[7916]} ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك . كما يقوله أبو العالية والسدي . { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك . كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ]{[7917]} } الآية [ الحج : 11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال{[7918]} السدي : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال : والحسنة الخصب ، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة : الجدْب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فقوله { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البَرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .

ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب . وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }

ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }

قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السَّكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم ارتفعت أصواتكما ؟ " فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما قلت يا عمر ؟ " قال : قلت : الحسنات والسيئات من الله . تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال : نختلف فيختلف أهل السماء{[7919]} وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض . فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله " . ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال " احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس " .

قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة{[7920]} .


[7906]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[7907]:رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في المختصر لابن المنظور (8/26) من طريق أبي الزناد أن خالد لما حضرته الوفاة بكى وقال... فذكره.
[7908]:في ر، أ: "طرفة بن العبد".
[7909]:البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، وهو في ديوانه (ص 30).
[7910]:في ر، أ: "ببلدها".
[7911]:زيادة من أ، والطبري.
[7912]:في أ: "وعن مقدمه".
[7913]:في ر: "وطار شيء من سمها".
[7914]:تفسير الطبري (8/552).
[7915]:في ر: "العلا".
[7916]:في ر: "وغير".
[7917]:زيادة من: ر، أ.
[7918]:في ر: "فقال" وفي أ: "قال".
[7919]:في ر: "السماوات".
[7920]:مسند البزار برقم (2496) وقال الهيثمي في المجمع (7/191) "شيخ البزار السكن بن سعيد لم أعرفه، وبقية رجال البزار ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر، وقال ابن حجر رحمه الله: "هذا خبر منكر وفي الإسناد ضعف".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هََذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هََذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لهؤلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : حيثما تكونوا ينلكم الموت فتموتوا ، { ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ } يقول : لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال وتضعفوا عن لقاء عدوّكم حذرا على أنفسكم من القتل والموت ، فإن الموت بإزائكم أين كنتم ، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ } فقال بعضهم : يُعْنَى به : قصور محصنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ } يقول : في قصور محصنة .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو همام ، قال : حدثنا كثير أبو الفضل ، عن مجاهد ، قال : كان فيمن قبلكم امرأة ، وكان لها أجير ، فولدت جارية فقالت لأجيرها : اقتبس لنا نارا ! فخرج فوجد بالباب رجلاً ، فقال له الرجل : ما ولدت هذه المرأة ؟ قال : جارية ، قال : أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة ، ويتزوّجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فقال الأجير في نفسه : فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمائة . فأخذ شفرة فدخل ، فشقّ بطن الصبية . وعولجت فبرئت ، فشبت ، وكانت تبغي ، فأتت ساحلاً من سواحل البحر ، فأقامت عليه تبغي . ولبث الرجل ما شاء الله ، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير ، فقال لامرأة من أهل الساحل : أبغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوّجها ! فقالت : ههنا امرأة من أجمل الناس ، ولكنها تبغي . قال : ائتِني بها ! فأتتها فقالت : قد قدم رجل له مال كثير ، وقد قال لي كذا ، فقلت له كذا . فقالت : إني قد تركت البغاء ، ولكن إن أراد تزوّجته . قال : فتزوّجها ، فوقعت منه موقعا ، فبينا هو يوما عندها ، إذ أخبرها بأمره ، فقالت : أنا تلك الجارية وأرته الشقّ في بطنها وقد كنت أبغي ، فما أدري بمائة أو أقلّ أو أكثر¹ قال : فإنه قال لي : يكون موتها بالعنكبوت . قال : فبني لها برجا بالصحراء وشيده . فبينما هما يوما في ذلك البرج ، إذا عنكبوت في السقف فقالت : هذا يقتلني ؟ لا يقتله أحد غيري ! فحركته فسقط ، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته ، وساح سمه بين ظفرها واللحم ، فاسودّت رجلها فماتت ، فنزلت هذه الاَية : { إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ } قال : قصور مشيدة .

وقال آخرون : معنى ذلك : قصور بأعيانها في السماء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ } وهي قصور بيض في سماء الدنيا مبنية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع في قوله : { إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ } يقول : ولو كنتم في قصور في السماء .

واختلف أهل العربية في معنى المشيدة ، فقال بعض أهل البصرة منهم : المشيدة : الطويلة . قال : وأما المَشيد بالتخفيف ، فإنه المزين .

وقال آخرون منهم نحو ذلك القول ، غير أنه قال : المَشيد بالتخفيف : المعمول بالشّيد ، والشّيد : الجصّ . وقال بعض أهل الكوفة : المَشِيد والمُشيّد أصلهما واحد ، غير أن ما شدّد منه فإنما يشدّد لتردد الفعل فيه في جمع مثل قولهم : هذه ثياب مصبغة ، وغنم مذبحة ، فشدد لأنها جمع يفرّق فيها الفعل ، وكذلك مثله قصور مُشيّدة ، لأن القصور كثيرة تردّد فيها التشييد ، ولذلك قيل : بروج مشيدة ، ومنه قوله : { وَغَلّقَتِ الأبْوَابَ } وكما يقال : كسّرت العود : إذا جعلته قطعا ، أي قطعة بعد قطعة . وقد يجوز في ذلك التخفيف ، فإذا أفرد من ذلك الواحد ، فكان الفعل يتردّد فيه ويكثر تردّده في جمع منه ، جاز التشديد عندهم والتخفيف ، فيقال منه : هذا ثوب مخّرق وجلد مقطّع ، لتردّد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق . وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردّد لم يجيزوه إلا بالتخفيف ، وذلك نحو قولهم : رأيت كبشا مذبوحا ، ولا يجيزون فيه «مذبّحا » ، لأن الذبح لا يتردّد فيه تردّد التخرّق في الثوب . وقالوا : فلهذا قيل : قصر مَشيد ، لأنه واحد ، فجعل بمنزلة قولهم : كبش مذبوح . وقالوا : جائز في القصر أن يقال قصر مُشيّد بالتشديد ، لتردّد البناء فيه والتشييد ، ولا يجوز ذلك في «كبش مذبوح » لما ذكرنا .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عْنِدِكَ } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } : وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة يقولوا هذه من عند الله ، يعني : من قِبَل الله ومن تقديره ، وإنْ تصبهم سيئة ، يقول : وإن تنلهم شدّة من عيش وهزيمة من عدوّ وجراح وألم ، يقولوا لك يا محمد : هذه من عندك بخطئك التدبير . وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ } .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : { وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } قال : هذه في السرّاء والضرّاء .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } فقرأ حتى بلغ : { وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً } قال : إن هذه الاَيات نزلت في شأن الحرب . فقرأ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } فقرأ حتى بلغ : { وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ } من عند محمد عليه الصلاة والسلام ، أساء التدبير وأساء النظر ، ما أحسن التدبير ولا النظر .

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } قل يا محمد لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة هذه من عند الله ، وإذا أصابتهم سيئة هذه من عندك : كل ذلك من عند الله دوني ودون غيري ، من عنده الرخاء والشدّة ، ومنه النصر والظفر ، ومن عنده القتل والهزيمة . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } النعم والمصائب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } النصر والهزيمة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا } يقول : الحسنة والسيئة من عند الله ، أما الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ } فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ، { لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا } يقول : لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به من أن كلّ ما أصابهم من خير أو شرّ أو ضرّ وشدة أو رخاء ، فمن عند الله ، لا يقدر على ذلك غيره ، ولا يصيب أحدا سيئة إلا بتقديره ، ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته . وهذا إعلام من الله عباده أن مفاتح الأشياء كلها بيده ، لا يملك شيئا منها أحد غيره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

و { أينما تكونوا يدرككم الموت } جزاء وجوابه ، وهكذا قراءة الجمهور ، وقرأ طلحة بن سليمان «يدركُكُم » بضم الكافين ورفع الفعل ، قال أبو الفتح : ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال : فيدرككم الموت{[4153]} ، وهي قراءة ضعيفة ، وهذا إخبار من الله يتضمن تحقير الدنيا ، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل . واختلف المتأولون في قوله : { في بروج } فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة ، فمثل الله لهم بها ، قال قتادة : المعنى في قصور محصنة ، وقاله ابن جريج والجمهور ، وقال السدي : هي بروج في السماء الدنيا مبنية ، وحكى مكي هذا القول عن مالك ، وأنه قال : ألا ترى إلى قوله { والسماء ذات البروج }{[4154]} وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : { في بروج مشيدة } ، معناه في قصور من حديد .

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يعطيه اللفظ ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها ، وبرج معناه ظهر ، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة ، ومنه تبرج المرأة ، و { مشيدة } قال الزجّاج وغيره : معناه مرفوعة مطولة ، لأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه ، وقالت طائفة : { مشيدة } معناه : محسنة بالشيد ، وذلك عندهم أن «شاد الرجل » معناه : جصص بالشيد ، وشيد معناه : كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة ، كما تقول : كسرت العود مرة ، وكسرته في مواضع منه كثيرة مراراً ، وخرقت الثوب وخرقته ، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة ، فعلى هذا يصح أن تقول : شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا أردت المبالغة ، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ عدي بن زياد العبادي ] : [ الخفيف ]

شَادَهُ مَرْمَراً وَجَلَّلَهُ كِلْ . . . ساً فللطيرِ في ذُراهُ وكورُ{[4155]}

والهاء والميم في قوله : { وإن تصبهم } رد على الذين قيل لهم ، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون ، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة ، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه السلام تحت أمر ، فتصيبهم بسببه أسواء ، ومعنى الآية ، وإن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله ، لا أنه ببركة إتباعك والإيمان بك ، { وإن تصبهم سيئة } ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك ، قالوا : هذه بسببك ، لسوء تدبيرك ، كذا قال ابن زيد ، وقيل لشؤمك علينا .

قاله الزجّاج وغيره ، وقوله : { قل كل من عند الله } إعلام من الله تعالى ، أن الخير والشر ، والحسنة والسيئة خلق له ومن عنده ، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه ، فالمعنى : قل يا محمد لهؤلاء : ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا من عند غيري ، بل هو كله من عند الله ، قال قتادة : النعم والمصائب من عند الله ، قال ابن زيد ، النصر والهزيمة ، قال ابن عباس : السيئة والحسنة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله شيء واحد ، ثم وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم ، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق والفقه في اللغة الفهم ، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين وأموره ، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الإحكامية ، والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة ، لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما ، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمناً لطيفاً بليغاً ، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله { فما } ووقف الباقون على اللام في قوله : { فمال } ، إتباعا للخط ، ومنعه قوم جملة ، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور ، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس ، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا .


[4153]:- ومثله قول الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها
[4154]:- الآية (1) من سورة (البروج)، ومثله قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا} وقوله: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين}.
[4155]:-هذا البيت لعدي بن زيد العبادي، وقبله يقول: أين كسرى، كسرى الملوك أبو سا سان؟ أم أين قبله سابور؟ وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبق منهم مذكــور؟ وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابــور. وجلله: كساه وعممه. والكلس: ما طلي به حائط أو باطن قصر، والوكور: جمع وكر وهو عش الطائر وإن لم يكن فيه. وأما الحضر فهي مدينة بين دجلة والفرات، وصاحب الحضر هو الساطرون. (اللسان).