( 1 ) بروج مشيدة : البروج هنا بمعنى الحصون العالية . وهناك من قرأ ( مشيدة ) بضم الميم وتشديد الياء بمعنى المبنية بالجص الأبيض الذي كان من أسباب متانة البناء ، وهناك من قرأها بفتح الميم وكسر الشين مزينة أو حصينة .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( 77 ) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ( 1 ) وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ( 78 ) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ( 79 ) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ( 80 ) } .
( 1 ) تساؤل إنكاري وتعجبي في مقام التنديد بفريق من المسلمين بسبب ارتياعهم من فرض القتال عليهم وإظهارهم الخوف من الناس كخوفهم من الله أو أشد وتساؤلهم تساؤل الفزع المستنكر عن سبب فرض ربهم القتال عليهم وتمنيهم أو لو أخره مدة أخرى مع أن منهم من كانوا يستعجلونه ولم يؤذن لهم به ، واكتفى منهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأمروا بكف أيديهم عن القتال .
( 2 ) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مطمئنا مهونا : فمدة الدنيا قصيرة ومتاعها تافه ضئيل . والآخرة خير وأبقى لمن يتقي الله ويستجيب لأوامره . ولن ينقص من أجرهم عنده شيء إذا ساروا في طريق واجبهم وماتوا قبل إتمامه . والموت عليهم محتم حينما يأتي أجلهم وهو مدركهم سواء أكانوا في ساحات القتال أم في حصون عالية منيعة .
( 3 ) وحكاية تنطوي على التقريع لما كان يقوله هذا الفريق فإذا أصابتهم حسنة قالوا إنها من الله وإذا أصابتهم سيئة قالوا إنها من النبي بسبب أوامره وحركته . وأمر للنبي بالرد عليهم بأن كل ذلك من الله وأن قولهم هذا لا يصدر إلا عن أناس لا يكادون يفهمون معنى الكلام ومرماه ومداه .
( 4 ) وتقرير قرآني مباشر وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما أصابه من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه ، وبأن الله تعالى إنما أرسله رسولا مبلغا والله شهيد على كل شيء وكفى به شهيدا . وبأن الرسول إنما يبلغ أمر الله فمن أطاعه فإنما يطيع الله ومن أعرض عن الاستجابة إلى ما يدعو إليه ويأمر به فليس عليه تبعة فإن الله لم يرسله ليكون مسؤولا عن أعمال الناس ومكلفا بحفظهم من الانحراف والإعراض .
( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال . . . )
الخ وما بعدها إلى آخر الآية ( 80 )
ولقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل من التابعين{[610]} في صدد الآية الأولى رواية تفيد أن بعض كبار المسلمين وأقويائهم مثل : عبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد ابن الأسود استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بمقابلة أذية المشركين لهم وللمسلمين بالمثل وقالوا له : لقد كنا ونحن مشركون في عز ونكون الآن في ذل إذا رضينا بما يفعله فينا المشركون ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم ؛ لأن الله لم يكن قد أذن بذلك وأمرهم بالصبر والمثابرة على ما كتب الله عليهم من صلاة وزكاة فلما فرض القتال على المسلمين بعد الهجرة وأذن لهم بقتال أعدائهم وأخذ النبي يدعوهم إلى ذلك ارتاع بعض المستأذنين وبدا منهم ما حكته الآيات . ومن الذين رووا هذه الرواية من روى أن الاستئذان وقع من أصحاب رسول الله الأولين وأن الاعتراض بدا من المنافقين . ومنهم من روى أن الاعتراض وقع حين نزول فرض الجهاد ثم تاب المعترضون وصاروا يستجيبون لدعوة النبي إلى الجهاد بإخلاص باستثناء المنافقين . وهناك رواية يرويها المفسرون تذكر أن الآية نزلت في اليهود الذين فعلوا في سابق تاريخهم ما حكته الآيات تحذيرا للمسلمين من أن يصنعوا صنيعهم وقد رووا{[611]} في صدد الآية الثانية أن الفقرة الأولى منها نزلت ردا على المنافقين الذين قالوا إنه لو لم يخرج الذين قتلوا في وقعة أحد إلى القتال لما قتلوا وأن الفقرة الثانية منها حكاية لقول اليهود والمنافقين بأن النبي منذ قدم إلى المدينة جلب عليها وعلى أهلها المصائب لما كان من سوء المواسم وقلة الخصب ثم حكاية لقولهم إن نصر بدر كان من تيسير الله وفضله وإن هزيمة أحد كانت بسبب سوء تدبير النبي صلى الله عليه وسلم .
وليس شيئا من هذه الروايات واردا في الصحاح . والذي يتبادر لنا وتلهمه الآيات مضمونا وروحا أنها وحدة منسجمة لا تتحمل هذا التقطيع والتفاوت في الفترات الذي يفيده تعدد الروايات وتباعد ظروفها وأن الآيات مع سابقاتها ولاحقاتها سياق واحد . وأن ما فيها من حكاية الفزع والارتياع من فرض الجهاد متصلة بالدعوة الواردة في الآيات السابقة . وأن ذلك إنما كان من المنافقين ومرضى القلوب الذين حكت الآيات السابقة موقفهم وأقوالهم . وأن الآيات استهدفت فيما استهدفته توكيد الحث على الجهاد وتوكيد واجب طاعة النبي وتسليته في هذا الموقف الممض الذي يقفه بعض المتظاهرين بالإسلام من الدعوة إلى الجهاد ومن التبرم به والتشاؤم منه . ولقد روت الروايات أن الحركات الجهادية الأولى بعد الهجرة وقبل وقعة بدر كانت من قبل المهاجرين فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذا عهدا من الأنصار بالدفاع عنه ومن أجل هذا استشارهم قبل نشوب القتال في وقعة بدر فكان منهم ذلك الموقف الرائع على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات البقرة ( 190 194 و 215 218 ) وفي سياق تفسير السورة الأنفال . وعلى ضوء هذا يمكن القول إن المعنيين في الفقرة الأولى هم أهل المدينة الذين لم يكلفوا في بدء الأمر بحرب وقتال هجومي واكتفى منهم بالدفاع والقيام بواجب الصلاة والزكاة . فلما كتب القتال وقف المنافقون هذا الموقف الذي حكته الآيات فنزلت الآيات تندد بهم . وفي سورة محمد آية تؤيد كون المنافقين هم أصحاب هذا الموقف وهي ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم 30 طاعة . . . ) حيث تفيد أن المؤمنين المخلصين كانوا ينتظرون منذ أوائل عهد المدينة أن يأذن الله لهم بالقتال ، وأن المنافقين وقفوا نفس الموقف الذي حكته الآيات التي نحن في صددها حينما أنزلت آية محكمة فرض فيها القتال أو ذكر فيها القتال وظهر عليهم الفزع الشديد كالذين يغشى عليهم من الموت . . وبناء على هذا نستطيع القول بشيء من الجزم : إن ما تفيده الرواية من كون بعض المسلمين الأولين الذين كانوا يستأذنون النبي بمقابلة المشركين على أذاهم وعدوانهم في مكة فلا يؤذن لهم أو بعض والذين حكت الروايات ذلك عنهم في سياق تفسير بعض الآيات المكية ومنها آية سورة الجاثية ( 14 ) على ما شرحناه في سياقها هم أو بعضهم الذين خافوا واعترضوا حينما كتب الله على المسلمين الجهاد لا يمكن أن يكون صحيحا لاسيما والروايات مجمعة على أن السرايا والحركات الجهادية التي جرت قبل وقعة بدر إنما كانت منهم ومن أمثالهم حالما أذن الله لهم بمقابلة العدوان بمثله وبمقابلة أعدائهم المشركين الذين كانوا يقاتلونهم ويؤذونهم في آيات سورة الحج ( 39 41 ) وسورة البقرة ( 215 ) على ما شرحناه في سياق تفسيرها .
ويمكن القول والحالة هذه : إن هذه الآيات قد نزلت كذلك مبكرة كسابقاتها .
وربما نزلت بعد وقعة بدر أو وقعة أحد . ولعل هذا من أسباب جعل هذه السورة في ترتيبها المتقدم بعض الشيء . وهذا الفصل مثل آخر مما قلناه في مقدمة السورة من وجود فصول فيها متقدمة في النزول على فصول في سور أخر متقدمة عليها في الترتيب .
( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ) وعلى جملة ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) .
ولقد كانت هاتان الجملتان موضوع بحوث كلامية{[612]} وقد توهم بعضهم أن بينهما تناقضا ، وقد تصدى المفسر الخازن للتوفيق بينهما فقال : إن إضافة كل شيء إلى الله هي على الحقيقة ، وإن إضافة السيئة للإنسان هي على المجاز لبيان كون ذلك بسبب ذنب اقترفه أو تقصير وقع فيه ومن قبيل ( وإذا مرضت فهو يشفين ) في الآية ( 80 ) من سورة الشعراء حيث احتوت الجملة حكاية قول إبراهيم الذي نسب المرض وأسبابه لنفسه والشفاء لله تعالى .
ولقد تصدى السيد رشيد رضا في تفسير للمسألة فقال : إن فيها حقيقتين الأولى كون الله تعالى خالق الأشياء التي هي مواد المنافع والمضار وواضع النظام والسنن لأسباب الوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان . والثانية كون الإنسان لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه استبانة الأسباب وتعرف السنن . ومهما يكن من أمر فإنه يتبادر لنا من سياق الآيات وروحها أنها لا تتحمل حيرة ولا جدلا . ولم تستهدف تقرير أصول كلامية . وأن التقريرات التي احتوتها هي ما اقتضاه سياق الكلام وظروفه . ففي الجملة الأولى حكاية لأقوال المنافقين الذين كانوا ينكرون أن ما نالهم من خير هو من بركة هجرة النبي إليهم وينسبونه إلى الله حتى لا يعترف بفضل هذه الهجرة وليس عن إيمان صادق . وكانوا في نفس الوقت ينسبون ما يصيبهم من كوارث حربية وغير حربية إلى النبي وهجرته إليهم . فنددت الآية الأولى بأقوالهم وردت عليهم . ثم احتوت الآية الثانية تقريرا توضيحيا وتعقيبيا على ذلك . فما يصيب النبي أو الإنسان من خير وتوفيق فهو من فضل الله حيث يكون قد سار وفق توجيهه . وما يصيبه من شر فهو من نفسه حيث يكون انحرف عن هذا التوجيه . وعلى هذا فلا يكون في الجملتين ما يفيد عدم مسؤولية الإنسان عن عمله وعدم تأثير تقصير الإنسان فيما يقع عليه أحيانا من مصائب ونوائب . وهذه النقطة بخاصة أكثر ما دار حولها الجدل . مع أن في القرآن المكي والمدني تقريرات عديدة صريحة ومحكمة في ذلك . وهي التي ينبغي أن تكون الضابط في ما تحتويه العبارة القرآنية في بعض الآيات من إطلاق وعدم حسم مما تكون اقتضته حكمة التنزيل وسياق الكلام وظروفه على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة .
ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن كلمة ( حسنة ) في الجملة الأولى عنت ما كان يناله المقاتلون من غنائم ونصر ورخاء ، وأن كلمة ( سيئة ) فيما عنت ما كان ينالهم من شظف وهزيمة وجراح . وكانوا يقولون : إن ما ينالهم من هذا هو من سوء تدبير النبي ومن ذاك هو من فضل الله ولا أثر للنبي فيه . وأن الآية بسبيل الرد عليهم وتسفيههم . كما روى قولهم : أن الجملة الثانية إما أن تكون موجهة للسامع مطلقا أو للنبي صلى الله عليه وسلم لتؤذنه بأن ما يصيبه من خير هو من فضل الله وما يصيبه من شر هو عقوبة على ما اجترحت يداه .
وهذا التأويل يدعم ما قلناه من أنه ليس في الآيات تناقض ولا تتحمل في مقامها جدلا مع التنبيه على أن جملة ( وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ) تجعل الخطاب للنبي في الجملة الثانية هو الوارد .
وقد جاء في آية آتية بعد هذه الآيات بيان تنديدي بالمنافقين فيه تنبيه على أنه لو كان القرآن من عند غير الله لكان فيه اختلاف كثير حيث ينطوي في هذا تقرير لكون ما في الآيات لا يمكن أن يتناقض .
هذا ، ومع خصوصية الآيات الزمنية من حيث احتواؤها على صورة من السيرة النبوية في العهد المدني فهي كسابقاتها تحتوي تلقينا عاما مستمر المدى والمدد بوجوب القتال في سبيل الله والإقدام عليه دون حساب للموت المحتوم على جميع الناس . والمحدد الأجل وإسلام الأمور إلى الله عز وجل الذي هو وحده مرجع جميع الأمور ونتائجها . وبتقبيح الصورة التي ترسمها الآيات لمرضى القلوب والتي تظهر في كل ظروف القتال ووجوب اجتنابها أيضا .
والآية الأخيرة جديرة بالتنويه لما فيها من تقرير حاسم لكون طاعة الرسول هي عنوان أو دليل على طاعة الله الذي أرسله ، حيث ينطوي فيها أولا : توكيد سلطان النبي على المسلمين وواجب طاعتهم له مما فتئت الآيات المدنية تكرره . وثانيا : تقرير لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه . فلا يمكن أن يؤذن الله المسلمين بأن طاعة رسوله عنوان ودليل على طاعته إلا وهو يعلم أنه معصوم فيما يبلغه عن الله وفيما يأمرهم به بأمر الله وإلهامه . وأنه معصوم عن الأمر بما فيه شر وضرر على الإطلاق وواضح أن طاعة الرسول التي هي عنوان طاعة الله بعد وفاته هي في اتباع ما صح عنه من سنن قولية وفعلية على ما شرحناه في مناسبة قريبة سابقة .