البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا} (78)

إدراك الشيء الوصول إليه ونيله .

البرج : الحصن .

وقيل : القصر .

والبروج : منازل القمر ، وكلها من برج إذا ظهر ، ومنه التبرج وهو إظهار المرأة محاسنها ، والبرج في العين اتساعها .

المشيد : المصنوع بالشيد وهو الجص .

يقال : شاد وشيد كرر العين للمبالغة ، ككسرت العود مرة وكسرته في مواضع ، وخرقت الثوب وخرقته إذا كان الخرق منه في مواضع .

فعلى هذا يقال : شاد الجدار .

ومنه قال والشاعر :

شاده مرمراً وجلله كلساً *** فللطير في ذراه وكور

والمشيد : المطول المرفوع يقال : شيد وأشاد البناء رفعه وطوّله ، ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل إذا رفعه .

الفقه : الفهم .

يقال : فقهت الحديث إذا فهمته ، وفقه الرجل صار فقيهاً .

{ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } أي : هذا التأخر الذي سألوه لا فائدة فيه ، لأنه لا منجي من الموت سواء أكان بقتل أم بغيره ، فلا فائدة في خور الطبع وحب الحياة .

وتحتمل هذه الجملة أن يكون ذلك تحت معمول قل ، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله مستأنفاً بأنه لا ينجو من الموت أحد .

والبروج هنا القصور في الأرض ، قاله : مجاهد ، وابن جريج ، والجمهور .

أو القصور من حديد ، روي عن ابن عباس .

أو قصور في سماء الدنيا مبنية قاله : السدّي .

أو الحصون والآكام والقلاع قاله : ابن عباس .

أو البيوت التي تكون فوق الحصون قاله : بعضهم .

أو بروج السماء التي هي منازل القمر قاله : الربيع أنس ، والثوري ، وحكاه ابن القاسم عن مالك .

وقال : ألا ترى إلى قوله : { والسماء ذات البروج } وجعل فيها بروجاً { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } وقال زهير :

ومن هاب أسباب المنية يلقها *** ولو رام أسباب السماء بسلم

مشيدة مطولة قاله : أبو مالك ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج .

أو مطلية بالشيد قاله : أبو سليمان الدمشقي .

أو حصينة قاله : ابن عباس ، وقتادة .

ومن قال : أنها بروج في السماء فلأنها بيض شبهها بالمبيض بالشيد ، ولهذا قال الذي هي قصور بيض في السماء مبنية .

والجزم في يدرككم على جواب الشرط ، وأينما تدل على العموم ، وكأنه قيل : في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت .

ولو هنا بمعنى إن ، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير : إن لو كانوا في بروج مشيدة ، ولإظهار استقصاء العموم في أينما .

وقرأ طلحة بن سليمان : يدرككم برفع الكافين ، وخرجه أبو الفتح : على حذف فاء الجواب أي : فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة .

قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا ، وهو : أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين ، وهو ليسوا بمصلحين .

فرفع كما رفع زهير يقول : لا غائب ما لي ولا حرم .

وهو قول نحوي سيبويهي انتهى .

ويعني : أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم ، بتوهم أنه نطق به .

وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان : أحدهما : الجزم على الجواب .

والثاني : الرفع .

وفي توجيه الرفع خلاف ، الأصح أنّه ليس الجواب ، بل ذلك على التقديم والتأخير ، والجواب محذوف .

وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعاً .

وحمله على ولا ناعب ليس بجيد ، لأن ولا ناعب عطف على التوهم ، والعطف على لتوهم لا ينقاس .

وقال الزمخشري أيضاً ويجوز أن يتصل بقوله : { ولا تظلمون فتيلاً } أي : لا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها .

ثم ابتدأ بقوله : يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه .

وهذا تخريج ليس بمستقيم ، لا من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة النحوية .

أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله : ولا تظلمون فتيلاً ، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } وأما من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أنَّ أينما تكونوا متعلق بقوله : ولا تظلمون ، ما فسره من قوله أي : لا تنقصون شيئماً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها ، وهذا لا يجوز ، لأن أينما اسم شرط ، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده .

ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله ، فلا يمكن أن يعمل فيه ، ولا تظلمون .

بل إذا جاء نحو : اضرب زيداً متى جاء ، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب .

فإن قال : يقدّر له جواب محذوف يدل عليه ما قبله وهو : ولا تظلمون ، كما يقدر في اضرب زيداً : متى جاء ، فالتقدير : أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً أي : فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه .

قيل له : لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي ، وفعل الشرط هنا مضارع .

تقول العرب : أنت ظالم إن فعلت ، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل .

وقرأ نعيم بن ميسرة : مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً ، كما قال : قصيدة شاعرة ، وإنما الشاعر ناظمها .

{ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } قال ابن عباس : الضمير للمنافقين واليهود ، وقال الحسن : للمنافقين ، وقال السدي : لليهود .

والظاهر أنه للمنافقين لأن مثل هذا لا يصدر من مؤمن ، واليهود لم يكونوا في طاعة الإسلام حتى يكتب عليهم القتال .

وروي عن ابن عباس : أن الحسنة هنا هي السلامة والأمن ، والسيئة الأمراض والخوف .

وعنه أيضاً : الحسنة الخصب والرخاء ، والسيئة الجدب والغلاء .

وعنه أيضاً : الحسنة السراء ، والسيئة الضراء .

وقال الحسن وابن زيد : الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد .

وقيل : الحسنة الغنى ، والسيئة الفقر .

والمعنى : أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى الله تعالى ، وأنها ليست باتباع الرسول ، ولا الإيمان به ، وإنّ تصبهم سيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا : هي بسببه ، كما جاء في قوم موسى : { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } وفي قوم صالح : { قالوا اطيرنا بك وبمن معك } وروى جماعة من المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال اليهود والمنافقون : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه .

{ قل كل من عند الله } أمر الله نبيه أن يخبرهم أنَّ كلاً من الحسنة والسيئة إنما هو من عند الله ، لا خالق ولا مخترع سواه ، فليس الأمر كما زعمتم ، فالله تعالى وحده هو النافع الضار ، وعن إرادته تصدر جميع الكائنات .

{ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } هذا استفهام معناه التعجب من هذه المقالة ، وكيف ينسب ما هو من عند الله لغير الله ؟ أي أن هؤلاء كانوا ينبغي لهم أن يكونوا ممن يتفهم الأشياء ، ويتوقفون عما يريدون أن يقولوا حتى يعرضوه على عقولهم .

وبالغ تعالى في قلة فهمهم وتعلقهم ، حتى نفى مقاربة الفقه ، ونفى المقاربة أبلغ من نفي الفعل .

وهذا النوع من الاستفهام يتضمن إنكار ما استفهم عن علته ، وأنه ينبغي أن يوجد مقابله .

فإذا قيل : ما لك قائماً ، فهو إنكار للقيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله .

وإذا قيل : ما لك لا تقوم ، فهو إنكار لترك القيام ، ومتضمن أن يوجد مقابله .

قيل في قوله : حديثاً ، أي القرآن لو تدبروه لبصرهم في الدين ، وأورثهم اليقين .

وقال ابن بحر : لامهم على ترك التفقه فيما أعلمهم به وأدبهم في كتابه .

ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله : فما ، ووقف الباقون على اللام في قوله : فمال ، اتباعاً للخط .

ولا ينبغي تعمد ذلك ، لأن الوقف على فما فيه قطع عن الخبر ، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر ، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس .

/خ79