سورة هود عليه السلام مكية إلا قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار } وهي مائة وثلاث وعشرون آية .
{ الر كتاب } ، أي : هذا كتاب ، { أحكمت آياته } ، قال ابن عباس : لم ينسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع به ، { ثم فصلت } ، بينت بالأحكام والحلال والحرام . وقال الحسن : أحكمت بالأمر والنهي ، ثم فصلت بالوعد والوعيد . قال قتادة : أحكمت أحكمها الله فليس فيها اختلاف ولا تناقض وقال مجاهد : فصلت أي : فسرت . وقيل : فصلت أي : أنزلت شيئا فشيئا . { من لدن حكيم خبير } .
[ وهي مكية ]{[1]} .
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا خلف بن هشام البزار ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عِكْرِمة قال : قال أبو بكر : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شَيّبك ؟ قال : " شيبتني هود ، والواقعة ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت " {[2]} .
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، قد شبت ؟ قال : " شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت " {[3]} وفي رواية : " هود وأخواتها " .
وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا حماد{[4]} بن الحسن ، حدثنا سعيد بن سلام ، حدثنا عمر بن محمد ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شيبتني هود وأخواتها : الواقعة ، والحاقة ، وإذا الشمس كورت " وفي رواية : " هود وأخواتها " {[5]} .
وقد روي من حديث ابن مسعود ، فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن طارق الرائشي{[6]} ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ؛ أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، ما شيبك ؟ قال : " هود ، والواقعة " {[7]} .
عمرو بن ثابت متروك ، وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود . والله أعلم .
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وبالله التوفيق .
وأما قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي : هي محكمة في لفظها ، مفصلة في معناها ، فهو كامل صورة ومعنى . هذا معنى ما روي عن مجاهد ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .
وقوله : { مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } أي : من عند الله الحكيم في أقواله ، وأحكامه ، الخبير بعواقب الأمور .
{ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } .
قال أبو جعفر : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله الر والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ يعني : هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن . ورفع قوله : «كتابٌ » بنية : هذا كتاب . فأما على قول من زعم أن قوله : الر مراد به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن ، وجعلت هذه الحروف دلالة على جميعها ، وأن معنى الكلام : هذه الحروف كتاب أحكمت آياته ، فإن الكتاب على قوله ينبغي أن يكون مرفوعا بقوله : الر .
وأما قوله : أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : تأويله : أحكمت آياته بالأمر والنهي ، ثم فصلت بالثواب والعقاب . ذكر من قال ذلك :
13862حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرني أبو محمد الثقفي ، عن الحسن ، في قوله : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ قال : أحكمت بالأمر والنهِي ، وفصّلت بالثواب والعقاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال : أحكمت في الأمر والنهي وفصلت بالوعيد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن رجل ، عن الحسن : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال : بالأمر والنهِي ثُمّ فُصّلَتْ قال : بالثواب والعقاب .
ورُوي عن الحسن قول خلافَ هذا . وذلك ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : وحدثنا عباد بن العوّام ، عن رجل ، عن الحسن : أُحْكِمَتْ بالثواب والعقاب ثُمّ فُصّلَتْ بالأمر والنهِي .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحكمت آياته من الباطل ، ثم فصلت ، فبين منها الحلال والحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه ، فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ قال : أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلها : بينها .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : أحكم الله آياته من الدّخل والخلل والباطل ، ثم فصلها بالأمر والنهي . وذلك أن إحكام الشيء إصلاحه وإتقانه ، وإحكام آيات القرآن إحكامها من خلل يكون فيها أو باطل يقدر ذوزيغ أن يطعن فيها من قبله . وأما تفصيل آياته فإنه تمييز بعضها من بعض بالبيان عما فيها من حلال وحرام وأمر ونهي . وكان بعض المفسرين يفسر قوله : فُصّلَتْ بمعنى : فسرت ، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ثُمّ فُصّلَتْ قال : فسرت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُصّلَتْ قال : فسرت .
قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني ، عن مجاهد : ثُمّ فُصّلَتْ قال : فسرت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال قتادة : معناه : بيّنت ، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبل ، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد .
وأما قوله : مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ فإن معناه : حكيم بتدبير الأشياء وتقديرها ، خبير بما يؤول إليه عواقبها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يقول : من عند حكيم خبير .
{ الر كتاب } مبتدأ وخبر أو { كتاب } خبر مبتدأ محذوف . { أُحكمت آياته } نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى ، أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ ، أو أحكمت بالحجج والدلائل أو جعلت حكمية منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية . { ثم فصّلت } بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار ، أو بجعلها سوراً أو بالإنزال نجما نجما ، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه . وقرئ { ثم فصّلت } أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته { ثم فصلت } على البناء للمتكلم ، و{ ثم } للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار . { من لدُن حكيم خبير } صفة أخرى ل { كتاب } ، أو خبر بعد خبر أو صلة ل { أحكمت } أو { فصلت } ، وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر أمره وما خفي .