1- سورة هود –عليه السلام- هي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف فقد سبقتها في هذا الترتيب سورة الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس .
أما ترتيبها في النزول ، فهي السورة الثانية والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة يونس .
2- وعدد آياتها : ثلاث وعشرون ومائة آية .
3- وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم بسورة هود ، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت ! قال : " شيبتني " " هود " و " الواقعة " ، و " المرسلات " و " عم يتساءلون " و " إذا الشمس كورت " .
وفي رواية : شيبتني هود وأخواتها .
قال القرطبي بعد أن ساق بعض الأحاديث في فضل هذه السورة . ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس . وتشيب منه الرءوس " ( {[1]} ) .
جمهور العلماء على أن سورة هود جميعها مكية ، وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات منها : وهي قوله –تعالى- [ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ، وضائق به صدرك . . . ] الآية 12 .
وقوله –تعالى- [ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ] الآية 17 .
وقوله –تعالى- : [ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ] الآية 114 .
والذي نرجحه أن السورة كلها مكية ، وسنرى عند تفسيرنا لهذه الآيات التي قيل بأنها مدنية ، ما يشهد لصحة ما ذهبنا إليه .
كذلك نرجح أن هذه السورة الكريمة ، كان نزولها في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج ، وذلك لأن نزولها –كما سبق أن أشرنا- كان بعد سورة يونس ، وسورة يونس كان نزولها بد سورة الإسراء ، التي افتتحت بالحديث عنه .
وهذه الفترة التي كانت قبيل حادث الإسراء والمعراج والتي أعقبته ، تعتبر من أشق الفترات وأحرجها وأصعبها في تاريخ الدعوة الإسلامية .
ففي هذه الفترة مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم والمدافع عنه ، وماتت كذلك السيدة خديجة –رضي الله عنها- التي كانت نعم المواسي له عما يصيبه من أذى . . . ففقد الرسول صلى الله عليه وسلم بموتهما نصيرين عزيزين ، كانت لهما مكانتهما العظيمة في نفسه ، وتعرض صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة لألوان من الأذى والاضطهاد فاقت كل ما سبقها وبلغت الحرب المعلنة من المشركين عليه وعلى دعوته ، أقسى وأقصى مداها . .
قال ابن إسحاق خلال حديثه عن هذه الفترة : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة –وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها –وبهلك عمه أبي طالب- وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنة وناصراً على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين .
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ، ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا .
ثم قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير قال لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التراب دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ، والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب ، وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها : " لا تبكي يا بينة ، فإن الله مانع أباك " . .
قال : ويقول بين ذلك : " ما نالت مني قريش شيئاً أكره حتى مات أبو طالب " ( {[2]} ) .
وسنرى عند استعراضنا للسورة الكريمة ، أنها صورت هذه الفترة أكمل تصوير .
5- مناسبتها لسورة يونس –عليه السلام- :
قال الآلوسي –رحمه الله- : ووجه اتصالها بسورة يونس ، أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح –عليه السلام- مختصرة جداً ومجملة ، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور . . ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك ، فإن قوله –تعالى- هنا [ الر . كتاب أحكمت آياته . . . ] نظير قوله –سبحانه- هناك [ الر . تلك آيات الكتاب الحكيم . . . ] بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط –أيضاً- ، حيث ختمت بنفي الشرك ، واتباع الوحي ، وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك( {[3]} ) .
6- عرض إجمالي للسورة الكريمة :
عندما نطالع سورة هود بتدبر وتأمل ، نراها في الربع الأول( {[4]} ) منها –قد افتتحت بالتنويه بشأن القرآن الكريم . وبدعوة الناس إلى إخلاص العباة لله –تعالى- وحده ، وإلى التوجه إليه بالاستغفار والتوبة الصادقة ، حتى ينالوا السعادة في دنياهم وآخرتهم .
قال –تعالى- : [ الر . كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير . وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ] .
ثم وضحت السورة جانباً من مسالك الكافرين ، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم الله التام ، وبقدرته النافذة ، وفصلت مظاهر هذه القدرة ، وشمول هذا العلم . .
قال –تعالى- : [ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، ألا حين يستغشون ثيابهم ، يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور ] .
ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة ، وفي حالة سلبها عنه ، وساقت للرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات ما يسلبه عما أصابه من كفار مكة ، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم ، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة الله ، الصادين عن سبيله ، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة ، وضربت المثل المناسب لكل من فريقي الكافرين والمؤمنين .
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
[ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه لبؤوس كفور . ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ، ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير . . . ] .
إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم : [ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً ، أفلا تذكرون ] .
فإذا ما وصلنا إلى الربع( {[5]} ) الثاني من سورة هود ، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل ، قصة نوح –عليه السلام- مع قومه ، فتحكي أمره لهم بعبادة الله وحده ، كما تحكي الرد القبيح الذي رد به عليه زعماؤهم ، وكيف أنه –عليه السلام- لم يقابل سفاهتهم بمثلها ، بل خاطبهم بلفظ " يا قوم " الدال على أنه واحد منهم ، يسره ما يسرهم ، ويؤلمه ما يؤلمهم ، ومع هذا فقد لجوا في طغيانهم وقالوا له –كما حكى القرآن عنهم- [ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . . . ] .
فكان رده عليهم [ إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين . . . ] .
وقد أتاهم الله –تعالى- بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، والذي قطع دابرهم .
ثم نراها بعد ذلك في الربع( {[6]} ) الثالث ، نقص علينا مشهداً مؤثراً ، مشهد نوح –عليه السلام- وهو ينادي ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص : [ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ] .
ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له : [ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ] .
ويجيبه الأب بحزن وحسم [ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ] .
ويتضرع الأب الحزين إلى ربه فيقول : [ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ] .
ويأتيه الجواب من الله –تعالى- : [ يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين ] .
ويلجأ نوح –عليه السلام- إلى خالقه . مستعيذاً به من غضبه فيقول : [ رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ] .
فيقبل الله –تعالى- ضراعته فيقول : [ يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك ، وعلى أمم ممن معك ، وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ] .
ثم يختم الله –تعالى- قصة نوح ، بتسلية النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وبما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، فيقول : [ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر . إن العاقبة للمتقين ] .
ثم تسوق السورة بعد ذلك قصة هود –عليه السلام- مع قومه ، فتحكي دعوته لهم إلى عبادة الله –تعالى- ، ومصارحته إياهم بأنه لا يريد منهم أجراً على دعوته ؛ وإرشادهم إلى ما يزيدهم غنى على غناهم ؛ وقوة على قوتهم ، ولكنهم قابلوا تلك النصائح الغالية بالتكذيب والسفاهة ، فقالوا له –كما حكت السورة عنهم- [ يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . . ] .
فيرد عليهم هود بقوله : [ إني أشهد الله ، واشهدوا أني برئ مما تشركون . من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها . . . ] .
ثم كانت النتيجة بعد هذه المحاورات والمجادلات أن نجى الله هوداً ، والذين آمنوا معه ، أما الكافرون بدعوته ، فقد نزل بهم العذاب الغليظ ، الذي تركهم صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية . . .
وفي الربع( {[7]} ) الرابع منها تسوق لنا السورة الكريمة ، ما دار بين صالح وقومه ، حيث أمرهم بعبادة الله ، وذكرهم بنعمه عليهم ، وحذرهم من الاعتداء على الناقة التي هي لهم آية . . . ولكنهم استخفوا بتذكيره وبتحذيره فكانت النتيجة إهلاكهم . . .
قال –تعالى- [ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ، ومن خزي يومئذ ، إن ربك هو القوي العزيز ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ] .
ثم قصت علينا السورة الكريمة ، ما فعله إبراهيم –عليه السلام- عندما جاءه رسل الله بالبشرى ، وكيف أنهم قالوا له عندما أنكرهم وأوجس منهم خيفة : [ لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط . . . ] .
ثم وضحت حال لوط –عليه السلام- عندما جاءه هؤلاء الرسل ؛ وحكت ما دار بينه وبين قومه الذين جاءوه يهرعون إليه عندما رأوا الرسل ، فقال لهم : [ يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ، أليس منكم رجل رشيد . . . ] .
فيقولون له في صفاقة وانحراف عن الفطرة السليمة : [ لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ، وإنك لتعلم ما نريد ] .
وأسقط في يد لوط –عليه السلام- ، وأحس بضعفه أمام هؤلاء المنحرفين المندفعين إلى ارتكاب الفاحشة ، اندفاع المجنون إلى حتفه ، فقال بأسي وحزن : [ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ] .
وهنا كشف له الرسل عن طبيعتهم ، وأخبروه بمهمتهم ؛ وطلبوا منه أن يغادر هو ومن آمن معه مكان إقامتهم ، فإن العذاب نازل بهؤلاء المجرمين بعد وقت قصير .
[ قالوا يا لوط إنا رسل ربك ، لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ، إنه مصيبها ما أصابهم ، إن موعدهم الصبح ، أليس الصبح بقريب . فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ] .
ثم تتابع السورة الكريمة في الربع الخامس( {[8]} ) ، حديثها عن جانب من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، فتحدثنا عن قصة شعيب –عليه السلام- مع قومه ، وكيف أ ، ه قال لهم مقالة كل رسول لقومه [ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ] .
ثم نهاهم بأسلوب رصين حكيم ، عن ارتكاب الفواحش التي كانت منتشرة فيهم ، وهي إنقاص الكيل والميزان ، وبخس الناس أشياءهم . . .
ولكنهم –كعادة السفهاء الطغاة- قابلوا نصائحه بالتهكم والاستخفاف والوعيد . . . فكانت النتيجة أن حل بهم عذاب الله الذي أهلكهم ، كما أهلك أمثالهم .
قال –تعالى- [ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ] .
ثم تسوق السورة بعد ذلك بإيجاز ، جانباً من قصة موسى مع فرعون وملته ، الذين اتبعوا أمر فرعون ، وما أمر فرعون برشيد .
ثم تعقب على تلك القصص السابقة ، بتعقيب يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه –سبحانه- لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون . . . قال –تعالى- : [ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب . . . ] .
أما في الربع السادس( {[9]} ) والآخير منها ، فنراها تبين بأسلوب قوي منذر ، أن الناس سيأتون يوم القيامة ، منهم الشقي ومنهم السعيد ، وأنه –سبحانه- سيوفي كل فريق منهم جزاءه غير منقوص .
ثم ترشد إلى ما يوصل إلى السعادة ، فتدعو إلى الاستقامة على أمر الله ، وإلى عدم الركون إلى الظالمين ، وإلى إقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، وإلى الصبر الجميل .
قال –تعالى- : [ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين . واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ] .
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم ، تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه ، وتسليته عما أصابه ، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه .
قال –تعالى- : [ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين . وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون . ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ] .
7- أهم الموضوعات التي عنيت السورة الكريمة بالحديث عنها :
من استعراضنا لسورة هود ، ومن معرفة الفترة التي نزلت فيها ، نستطيع أن نقول : إن السورة الكريمة قد عنيت بالحديث عن موضوعات متنوعة من أهمها ما يأتي :
( أ ) ترغيب الناس في طاعة الله ، وتحذيرهم من معصيته ، وهذا المعنى نراه في كثير من آيات سورة هود ، ومن ذلك :
قوله –تعالى- : [ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير . . . ] .
وقوله –تعالى- حكاية عن هود –عليه السلام- : [ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين . . . ] .
وقوله –تعالى- حكاية عن شعيب –عليه السلام- : [ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ، وما أنا عليكم بحفيظ . . . ] .
( ب ) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، ومن مظاهر هذه التسلية ، أن السورة الكريمة قد اشتملت في معظم آياتها على قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم . فقد ذكرت نواحي متنوعة من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة هود مع قومه ، ومن قصة صالح مع قومه ، ومن قصة شعيب مع قومه ، ومن قصة لوط مع قومه . . .
وقد تحدثت خلال كل قصة عن المسالك الخبيثة ، والمجادلات الباطلة ، التي أتبعها الطغاة مع أنبيائهم الذين جاءوا لسعادتهم وهدايتهم .
كما ختمت كل قصة من هذه القصص ، ببيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين . .
وفي ذلك ما فيه من التسلية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عما لحقه من أذى ، وما أصابه من اضطهاد ، وما تعرض له من اعتداء عليه وعلى أصحابه .
وكأن ما ورد في هذه السورة من قصص طويل متنوع ، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن ما أصابك من قومك يا محمد ، قد أصاب الأنبياء السابقين من أقوامهم ، فاصبر كما صبروا ، فإنه [ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ] .
( ج ) إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله ، وليس من كلام البشر . .
فقد تحداهم هنا أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم في موطن آخر أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا ، وساق لهم –على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من أخبار الأولين ، ومن قصص الأنبياء مع أقوامهم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء السابقين ، ولم يكن قارئا لأخبارهم فدل ذلك على أن هذا القرآن من عند الله ، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه .
قال –تعالى- : [ أم يقولون افتراء ، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ] .
وقال –تعالى- : [ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر ، إن العاقبة للمتقين ] .
( د ) بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف ، وهي أنه –سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ؛ ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ؛ بإعراضهم عن الحق ، واتباعهم للهدى ، واستحقاقهم للعقوبة التي هي جزاء عادل لكل ظالم .
وهذا بيان نراه في مواضع متعددة من السورة ، ومن ذلك قوله –تعالى- في ختام الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم .
[ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ، لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد . إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ، ذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود . وما تؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد . . . ] .
وبعد : فهذه تعريفات عن سورة هود ، رأينا أن نذكرها قبل البدء في تفسيرها ، وأرجو أن يكون في ذكرها ما يعطي القارئ صورة واضحة عن هذه السورة الكريمة .
هود - عليه السلام - من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد سبق أن تكلمنا بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، عن آراء العلماء فى المراد بهذه الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور .
ورجحنا أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله - تعالى - : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون به كلامكم ، ومنظوا من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو هاتوا سورة واحدة .
فلما عجزوا - وهم أهل الفصاحة والبيان - ثبت أن غيرهم أعجز ، وأن هذا القرآن من عند الله ، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } .
وقوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } من الإِحكام - بكسر الهمزة - وهذه المادة تستعمل فى اللغة لمعان متعددة ، ترجع إلى شئ واحد هو المنع . يقال : أحكم الأمر . أى : أتقنه ومنعه من الفساد . أى : منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق : ويقال أحكم الفرس ، إذا جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب .
وقوله : { ثُمَّ فُصِّلَتْ } من التفصيل ، بمعنى التوضيح والشرح للحقائق والمسائل المراد بيانها ، بحيث لا يبقى فيها شتباه أو لبس .
والمعنى : هذا الكتاب الذى أنزلناه إليك يا محمد ، هو كتاب عظيم الشأن ، جليل القدر ، فقد أحكم الله آياته إحكاما بديعا ، وأتقنها إتقانا معجزا ، بحيث لا يتطرق إليها خلل فساد . ثم فصل - سبحانه - هذه الآيات تفصيلا حكيما ، بأن أنزلها نجوما ، وجعلها سورا سورا ، مشتملة على ما يسعد الناس فى دنياهم وآخرتهم ، من شئون العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والآداب ، والأحكام .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أى : نظمت نظما رصينا محكما ، بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف . . وقيل : منعت من الفساد ، من قولهم : أحكمت الدابة ، إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ، قال جرير :
أبنى حنيفة أحكموا سفاءكم . . . إني أخاف عليكم أن أغضبا
{ ثُمَّ فُصِّلَتْ } كما تفصل القلائد بالفرائد ، ومن دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة ، وآية آية ، أو فرقت فى التنزيل ولم تنزل جملة واحدة .
و { ثم } فى قوله - سبحانه - " ثم فصلت " للتراخى فى الرتبة كما هو شأنها فى عطف الجمل ، لما فى التفصيل من الاهتمام لدى النفوس ، لأن العقول ترتاح إلى التفصيل بعد الإِجمال ، والتوضيح بعد الإِيجاز .
وجملة { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفة أخرى للكتاب ، وصف بها ، لإِظهار شرفه من حيث مصدره ، بعد أن وصف بإحكات آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات أى : هذا الكتاب الذى أتقنت آياته إتقانا بديعا ، وفصلت تفصيلا رصينا ، ليس هو من عند أحد من الخلق ، وإنما هو من عند الخلق الحكيم فى كل أقواله وأفعاله ، الخبير بظواهر الأمر وبواطنها .
قال الشوكانى : وفى قوله { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } لف ونشر ، لأن المعنى : أحكمها حكيم ، وفصلها خبير ، عالم بمواقع الأمور .