قوله تعالى : { فمن حاجك فيه } أي جادلك في أمر عيسى وفي الحق .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءك من العلم } بأن عيسى عبد الله ورسوله .
قوله تعالى : { فقل تعالوا } أصله تعاليوا ، تفاعلوا ، من العلو ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ، قال الفراء : بمعنى تعال ، كأنه يقول : ارتفع .
قوله تعالى : { ندع } جزم لجواب الأمر ، وعلامة الجزم سقوط الواو .
قوله تعالى : { أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } . قيل : أبناءنا ، أراد الحسن والحسين ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا عنى نفسه وعلياً رضي الله عنه ، والعرب تسمى ابن عم الرجل نفسه ، كما قال الله تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) . يريد إخوانكم ، وقيل : هو على العموم لجماعة أهل الدين .
قوله تعالى : { ثم نبتهل } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي نتضرع في الدعاء ، وقال الكلبي : نجتهد ونبالغ في الدعاء ، وقال الكسائي وأبو عبيدة : نبتهل ، والابتهال الالتعان يقال : عليه بهلة الله أي لعنته .
قوله تعالى : { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } منا ومنكم في أمر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً ، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم ، يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال : والله لقد عرفتكم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، والله مالا عن قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم . ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً للحسين ، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن أبيتم المباهلة فأسلموا ؟ يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فأبوا فقال : فإني أنابذكم فقالوا : مالنا بحرب العرب طاقة ، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ، ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفاً في صفر ، وألفاً في رجب ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال : " والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا " .
وهنا - وقد وضحت القضية وظهر الحق جليا - يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية :
( فمن حاجك فيه - من بعد ما جاءك من العلم - فقل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم . ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) . .
وقد دعا الرسول [ ص ] من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد ، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين . فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة . وتبين الحق واضحا . ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظا بمكانتهم من قومهم ، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم ! ! ! وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه .
{ فمن حاجك } من النصارى . { فيه } في عيسى . { من بعد ما جاءك من العلم } أي من البينات الموجبة للعلم . { فقل تعالوا } هلموا بالرأي والعزم . { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها ، وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم . { ثم نبتهل } أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا . والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار . { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } عطف فيه بيان روي { أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر ، فلما تخالوا قالوا للعاقب -وكان ذا رأيهم- ما ترى فقال : والله لقد عرفتم نبوته ، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا ، فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ، فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد ، فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ) . وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته .
تفريع على قوله : { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } لما فيه من إيماء إلى أنّ وفد نجران ممترون في هذا الذي بَيّن الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمرّوا على محاجتهم إياك مكابرةً في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة . ذلك أنّ تصْميمَهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محْضة بعد ما جاءك من العلم وبينتَ لهم ، فلم يبق أوضحُ مما حاجَجْتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا .
و { تعالوا } اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قَصد العلوّ ، فكأنّهم أرادوا به في الأصل أمراً بالصعود إلى مكان عالٍ تشريفاً للمدعُو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني :
أيَا جَارَتَا مَا أنْصَفَ الدهرُ بيننا *** تَعَالِي أقَاسِمْكِ الهُمُومَ تَعَالِي
ومعنى { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : { ثم نبتهل } إلى آخره .
والابتهال مشتق من البَهْل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقاً لأنّ الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول .
ومعنى { فنجعل لعنت الله } فنَدْعُ بإيقاع اللعنة على الكاذبين . وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاءٌ لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يَكفُوا . روى المفسرون وأهل السيرة أنّ وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب : نلاعنه فوالله لئن كان نبيئاً فلاعننا لا نفلح أبداً ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي .
وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم .
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا ، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب { أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله } وأنه يخشى سوء العيش ، وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة .
والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم .
والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف ، قال تعالى : { يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء } [ الأحزاب : 32 ] وقال : { ونساء المؤمنين } وقال النابغة :
حِذارَا على أنْ لاَ تُنَالَ مَقَادَتِي *** ولاَ نِسْوَتِي حَتى يَمُتْن حَرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة .
والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بَهلة وبُهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازاً مشهوراً في مطلق الدعاء قال الأعشى :
لا تقعدنَّ وقد أكَّلّتَها حطباً . . . تعوذ من شرّها يوماً وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنّه فرّع عليه قوله : { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } .
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلاّ واثق بأنه على الحق . وهذه المباهلة لم تقع لأنّ نصارى نجران لم يستجيبوا إليها . وقد روى أبو نعيم في الدلائل أنّ النبي هيأ علياً وفاطمةً وحَسَناً وحُسَيناً ليصحبهم معه للمباهلة . ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين .