التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

لقد لقن الله تعالى ، نبيه صلى الله عليه وسلم ، الجواب الذى يقطع لسان المجادلين بالباطل فى شأن عيسى عليه السلام ، فقال تعالى { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } . . . إلخ .

قال الفخر الرازى : اعمل أنه " سبحانه " بين أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعهما بذكر الجواب على جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم أن يكون ابنا لله فكذلك لا يلزم من عدم الأب البشرى لعيسى أن يكون ابنا لله . ولما لم يبعد خلق آدم من التراب لم يبعد أيضاً خلق عيسى من الدم الذى كان يجتمع فى رحم أم عيسى . ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى - فعند ذلك - قال سبحانه - { فَمَنْ حَآجَّكَ } بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند ، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة .

والفاء في قوله { فَمَنْ حَآجَّكَ } للتفريع على قوله - تعالى - { الحق مِن رَّبِّكَ } . . وقوله { مِن } الراجح فيها أنها شرطية . وقوله { حَآجَّكَ } من المحاجة وهى تبادل الحجة والمجادلة بين شخص وآخر .

والمعنى : فمن جادلك وخاصمك " يا محمد " من أهل الكتاب " فيه " أى فى شأن عيسى - عليه السلام - بأن زعموا أنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الكاذبة في شأنه .

وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } أى فمن جادلك فى شأن عيسى من بعد الذى أنزلناه إليك وقصصناه عليك فى أمره ، فلا تبادله المجادلة ، فإنه معاند لا يقعنه الدليل مهما كان واضحا ، ولكن قل له ولأمثاله من الضالين :

{ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } .

وقوله { تَعَالَوْاْ } اسم فعل أمر لطلب القدوم . وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى " كترامى يترامى " إذا قصد العلو . فكأنهم أرادوا به فى الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور .

وقوله { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أى نتباهل ونتلاعن . فالافتعال هنا بمعنى الفاعلة أى بأن نقول : بهلة الله على الكاذب منا ومنكم . والبهلة بفتح الباء وضمها : اللعنة . يقال بهله الله يبهله بهلا لعنه الله وأبعده من رحمته ثم شاعت فى كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا .

والمعنى : فإن جادلك أهل الكتاب فى شأن عيسى من بعد أن أخبرك ربك بما هو الحق من أمره فقل لهم { تَعَالَوْاْ } أى أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه الحق من الباطل ، وهو أن ندعو نحن وأنتم الأبناء والنساء ثم نجتمع جميعا في مكان واحد ، ثم نتضرع إلى الله ونبتهل إليه بأن يجعل لعنته على الكاذبين فى دعواهم المنحرفين عن الحق فى اعتقادهم .

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد لقنت النبى صلى الله عليه وسلم الجواب الحاسم الذى يخرس ألسنة المجادلين في عيسى ، ويتحداهم - إن كانوا صادقين - أن يقبلوا هذه المباهلة ، ولكنهم نكصوا على أعقابهم فثبت كذبهم وضلالهم .

وهذه الآية الكريمة تسمى بآية المباهلة ، وقد ذكر العلماء أنها نزلت للرد على نصارى نجران الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن عيسى - عليه السلام - .

قال ابن كثير ما ملخصه . وكان نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا فى وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة فجعلوا يحاجون فى عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والألوهية فأنزل صدر هذه السورة رداً عليهم . . وكانوا ستين راكبا منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم وهم : العاقب أميرهم واسمه عبد المسيح ، والسيد صاحب رحلهم واسمه الأبهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفى القصة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله تعالى ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم . دعاهم إلى المباهلة فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر فى أمرنا . . . ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم ان محمدا لنبى مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم .

. فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم . فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم لعى خراج يؤدونه إليه .

وروى الحافظ ابن مردويه عن جابر قال : قدم على النبى صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده على وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج .

قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى بعثنى بالحق لو لاعنا لأمطر عليهم الوادى ناراً " .

ثم قال : وروى البخارى عن حذيفة قال : " جاء العاقب والسيد صاحب نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، ثم قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا . . فقال : " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " . فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أمين هذه الأمة " " .

وقال صاحب الكشاف : إن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ؛ وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟

قلت : ذلك آكد فى الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له . وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن فى الحروب لتمنعهم من الهرب . . . وفى الآية دليل واضح على صحة نبوة النبى صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك ؟ .