الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

{ فَمَنْ حَآجَّكَ } : خاصمك وجادلك بأمر يا محمد .

{ فِيهِ } : في عيسى .

{ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } : بأنه عبد اللّه ورسوله .

{ فَقُلْ تَعَالَوْاْ } : قرأ الحسن وأبو واقد الليثي وأبو السمّاك العدوي : { تعالوا } بضم اللام ، وقرأ الباقون بفتحها والأصل فيه تعاليوا لأنّه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضّمة على الياء فسكنت ثم حذفت وبقيت [ اللام على محلّها وهي عين الفعل ] ضم فإنّه نقل حركة الياء المحذوفة التي هي لام الفعل إلى اللام .

قال الفرّاء : معنى تعال كأنّه يقول ارتفع .

{ نَدْعُ } : جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم فيه سقوط الواو .

{ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } : وقيل : أراد نفوسهم ، وقيل : أراد الأزواج .

{ ثُمَّ نَبْتَهِلْ } : نتضرّع في الدّعاء . قاله ابن عباس .

مقاتل : نخلص في الدعاء .

الكلبي : نجهد ونبالغ في الدّعاء . الكسائي وأبو عبيدة : نلتعن بقول : لعن اللّه الكاذب منّا ، يقال : عليه بهلة اللّه ، وبهلته : أي لعنته .

قال لبيد :

في قدوم سادة من قولهم *** نظر الدهر إليهم فابتهل

{ فَنَجْعَل } : عطف على قوله : نبتهل .

{ لَّعْنَةَ اللَّهِ } : مصدر . { عَلَى الْكَاذِبِينَ } : منّا ومنكم في أمر عيسى ، فلمّا قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثمّ نأتيك غداً . فخلا بعضهم ببعض ، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ماترى ؟ فقال : واللّه يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمداً نبيٌ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما لاعن قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن نعلم ذلك لنهلكنّ . فإن رأيتم إلاّ البقاء لدينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرّجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول اللّه محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي ( رضي الله عنه ) خلفها وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأَمّنوا .

فقال أسقف نجران : يا معشر النّصارى إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة .

فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكُن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم . فأبوا . قال : فإنّي أُنابذكم بالحرب . فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنّا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تُخيفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي سكّة ألفاً في صفر وألفاً في رجب . فصالحهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ذلك . وقال : والذي نفسي بيده إنّ العذاب قد نزل في أهل نجران ولو تلاعنوا لمُسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل اللّه نجران وأهله حتّى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا .