تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

الآية 61 وقوله تعالى : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } الآية : دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة . فالمباهلة في لغة العرب الملاعنة ، دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين ، فامتنعوا عن ذلك خوفا منهم لخوف اللعنة ، فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم ، لكنهم تعاموا{[3918]} ، وكابروا ، فلم يقروا بالحق .

وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناء ، وفي تخلفهم عن ذلك دليل علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وعدوا بالنزول عليهم . ثم /60-ب/ لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد ، ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة . ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة ، وإنما يكون بتوفير الحجة وقطع الشبهة ، ففي ذلك بيان أنه كانت ثم محاجات حتى بلغ الأمر على ذلك : أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال ، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل ، وإنما يكون عند ظهور{[10]} معاندتهم وكثرة{[11]} سفههم حتى هموا بالقتال ، وأكثروا الأذى ، وأكرهوا قوما على الكفر ، وأخرجوا رسول رب العالمين من بين أظهرهم بما راموا قتله ، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصنوا بالغيران ، فأذن الله عند ذلك بالقتال وفتح الفتوح لتكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة ، وحجته بينة ، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة والتوحيد والرسالة ، لكن على ما قال الله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 135 ]

[ وقال ]{[12]} : { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } [ الكهف : 22 ] ؛ نهى عن التعمق والخوض في ما تقصر عنه الأفهام ، وإن كان معلوما أن لله حججا ظاهرة وغامضة ، ولا قوة إلا بالله .

وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن ذلك باللطف والرفق ، يري المقصود به ليقرر به عنده الحجة ، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله ، ويبلغه فهمه ، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده ، ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد . فإذا{[13]} رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره ، فتداويه{[14]} بما جاء به التعليم من الضرب والحبس ، فإن نفع ذلك ، وإلا فكف{[15]} شره عن غيره وتطهير الأرض ، فإنه النهاية في القمع ، والغاية في ما يحق من معاملة السفهاء ، والله أعلم . لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية ، بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير ، والله أعلم . لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولا ليعرف{[16]} بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به ، ولا قوة إلا بالله .


[10]:-في ط ع: نقصانا.
[11]:- في ط م: خاص.
[12]:- في النسخ الثلاث: يمكن.
[13]:- في ط م: التكبير.
[14]:- في ط ع: معه، ساقطة من الأصل.
[15]:- في ط م: المحبة والخلق.
[16]:- ساقطة من ط م.
[3918]:في الأصل وم: تعانوا.