محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

61

( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين61 ) .

( فمن حاجك ) أي جادلك من النصارى بإيراد حجة ( فيه ) أي في شأن عيسى زعما منهم أنه ليس على الشأن الملتو ( من بعد ما جاءك من العلم ) أي الذي أنزلناه إليك ، وقصصناه عليك في أمره . وللفاضل المهايمي في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال ( الحق ) أي الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء ( من ربك ) الذي رباك بالاطلاع على الحقائق ( فلا تكن من الممترين ) بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله فإنه إطلاق مجازي لأنه لما حدث منه كان كأبيه . وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام ( فمن حاجك ) أي جادلك ( فيه ) لإثبات ابنيته بظواهر الإنجيل ( من بعد ما جاءك من العلم ) القطعي الموجب لتأويله . ( فقل ) لم يبق بيننا وبينكم مناظرة ، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة ( تعالوا ) أي أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علو الحق وسفول / الباطل ( ندع أبنائنا وأبناءكم ونسائنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) أي يدع كل منا ومنكم نفسه ، وأعزة أهله ، وألصقهم بقلبه ، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ويحارب دونهم ، ويحملهم على المباهلة ( ثم نبتهل ) أي نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة ( فنجعل لعنة الله ) أي إبعاده وطرده ( على الكاذبين ) منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين ، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية .

تنبيهات :

الأول- قال القاشاني : إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم . وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد . ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة ، وطلبت الموادعة بقبول الجزية ؟

الثاني- قال ابن كثير : وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره ، وكانوا ستين راكبا ، منهم ثلاثة نفر ، إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم ،

وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى المباهلة فقالوا : " يا أبا القاسم ! / دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى ! لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ! قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم ، وأقرهم على خراج يؤدونه إليه " .

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبي عن جابر قال : " قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي بعثني بالحق ، لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي نارا . قال جابر : وفيهم نزلت :

( ندع أبناءنا ) . . . الآية –قال جابر : ( أنفسنا وأنفسكم ) : رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب ، وأبناؤنا : الحسن والحسين ، ونساؤنا : فاطمة ، وهكذا- " رواه الحاكم في ( مستدركه ) بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . هكذا قال .

وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا ، وهذا أصح .

وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .

وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال : " جاء العاقب والسيد ، صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا / رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : لأبعثن معكم رجلا أمينا ، حق أمين . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح . فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا أمين هذه الأمة " . ورواه مسلم والنسائي أيضا وغيرهم .

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : " قال أبو جهل –قبحه الله- : إن رأيت محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته ، قال : فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا " .

قال ابن كثير : وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي . وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في ( زاد المعاد ) وأعقبها بفصل مهم في فقهها . فليراجع .

الثالث- قال الزمخشري : فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استأجر على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك . ولم يقتصر على تعرض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثبت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب . ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل ، لا شيء أقوى منه ، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم . لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .

/ الرابع- استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين ، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلى الله عليه وسلم . والمباهلة الملاعنة .

قال الكازروني في ( تفسيره ) : وقع البحث عند شيخنا العلامة الديواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار ، وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا ، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ومساس الضرورة إليها .

قال الإمام صديق خان في ( تفسيره ) : وقد دعا الحافظ ابن القيم ، رحمه الله ، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ، إلى المباهلة بين الركن والمقام فلا يجبه إلى ذلك وخاف سوء العاقبة . وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف ب ( النونية ) -انتهى- .

وقد ذكر في ( زاد المعاد ) في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه : ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة ، وقد أمر الله ، سبحانه ، بذلك رسوله ، ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، ولم ينكر عليه الصحابة ، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك ، وهذا من تمام الحجة –انتهى- .