فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين 61 إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم62 )

( فمن ) شرطية وهو الظاهر أو موصولة ( حاجك فيه ) أي في عيسى وهو الأظهر ، وقيل في الحق وهو الأقرب ، والمحاجة مفاعلة وهي من الاثنين وكان الأمر كذلك .

( من بعد ما جاءك من العلم ) بأن عيسى عبد الله ورسوله ومن للتبعيض أو لبيان الجنس ( فقل تعالوا ) العامة على فتح اللام لأنه أمر من تعالى يتعالى كترامى يترامى ، وأصل ألفه ياء وأصل هذه الياء واو لأنه مشتق من العلو وهو الارتفاع ، تقول في الواحد تعال يا زيد ، وفي الجمع المذكور تعالوا ، وتقول يا زيدان تعاليا ، ويا هندان تعاليا ويا نسوة تعالين ، قال تعالى ( فتعالين أمتعكن ) .

وقرأ الحسن ( تعالوا ) بضم اللام ، وتعال فعل أمر صريح وليس باسم فعل لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به ، قيل وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع تفاؤلا بذلك وإذنا للمدعو لأنه من العلو والرفعة ، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء حتى تقول ذلك لمن تريد إهانته كقولك للعدو " تعال " ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها ، وقيل هو الدعاء لمكان مرتفع ثم توسع فيه حتى استعمل في طلب الإقبال إلى كل مكان حتى المنخفض .

( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) هذا وإن كان عاما فالمراد الخاص وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران كما أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والسيد فدعاهما إلى الإسلام فقالا أسلمنا يا محمد صلى الله عليه وسلم فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام ، قالا فهات ، قال حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير{[329]} .

قال جابر فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على ذلك الغد فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له فقال " والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا " قال جابر فيهم نزلت ( قل تعالوا ندع أبناءنا ) الآية .

قال جابر " أنفسنا وأنفسكم " رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي ، وأبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة ، ورواه الحاكم من وجه آخر عن جابر وصححه وفيه انهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هل لك أن نلاعنك .

وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية ( قل تعالوا ) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي{[330]} .

وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه ( تعالوا ندع أبناءنا ) الآية قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده .

ويمكن أن يقال هو على عمومه لجماعة أهل الدين وإن كان السبب خاصا ، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام ، وأمته أسوته .

وضمير " فيه " لعيسى كما تقدم ، والمراد بمجيء العلم هنا مجيء سببه وهو الآيات البينات ، والمحاجة المخاصمة والمجادلة وتعالوا أي هلموا وأقبلوا ، وأصله الطلب لإقبال الذوات ، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضرا ، كما تقول لمن هو حاضر عندك تعال ننظر في هذا الأمر .

واكتفى بذكر البنين عن البنات إما لدخولهن في النساء أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن .

ومعنى الآية ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة ، وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما تقدم .

وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وإنما قدمهم في الذكر على نفسه لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب منزلتهم .

إن قلت القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهذا يختص به وبمن يباهله فلم ضم إليه الأبناء والنساء في المباهلة .

قلت ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرأ على تعريض أعزته ، وفي الدلالة على ثقته بكذب خصمه ولأجل أن يهلك خصمه مع أعزته جميعا لو تمت المباهلة .

( ثم نبتهل ) نتضرع إلى الله ، وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره يقال بهله الله أي لعنه والبهل اللعن .

قال أبو عبيد والكسائي نبتهل نلتعن ، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك قال في الكشاف : ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا .

أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " هذه الإخلاص ، يشير بأصبعه التي تلي الإبهام ، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه ، وهذا الابتهال فرفع يديه مدا " .

قال في الجمل : وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة ، وتقديم النصح والإنذار ، وعدم نفع ذلك ومساس الضرورة إليها انتهى من تفسير الكازوني انتهى .

( قلت ) وقد دعا الحافظ ابن القيم رحمه الله من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه و إجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل إلى المباهلة بين الركن والمقام ، فلم يجبه إلى ذلك وخاف سوء العاقبة ، وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بالنونية{[331]} .

وأتى سبحانه وتعالى هنا بثم تنبيها لهم على خطيئتهم في المباهلة كأنه يقول لهم لا تعجلوا وتأنوا لعله أن يظهر لكم الحق ، فلذلك أتى بحرف التراخي ( فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) يعني منا ومنكم بأن نقول اللهم العن الكاذب في شأن عيسى أي الذي يقول إنه ابن الله ويقول إنه إله ، هذه جملة مبينة لمعناه .

وفي الآية دليل قاطع وبرهان ساطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة ، لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم .


[329]:ابن كثير 1/368.
[330]:ابن كثير 1/371.
[331]:القصيدة النونية للإمام ابن القيم تبلغ أكثر من ستة آلاف بيت ذكر فيها جميع الفرق الإسلامية.السلفية والخلفية، وانتصر فيها للسلف وبين زيغ الخلف، وقد شرحها العلامة خليل الهراس من علماء الأزهر في جزأين وطبعها بمطبعة الإمام 13 شارع قرقول المنشية بالقلعة بمصر.