الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : " قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدثنا عن عيسى ابن مريم قال : رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم . قالوا : ينبغي لعيسى أن يكون فوق هذا . فأنزل الله { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم . . . } الآية . قالوا : ما ينبغي لعيسى أن يكون مثل آدم . فأنزل الله { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم . . . } الآية " .

وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني ، من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم " .

وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه ( طس ) سليمان : بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ، من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران . إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب . أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم آذنتكم بالحرب ، والسلام . فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا ، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة ، فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف : ما رأيك . . . ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يؤمن أن يكون هذا الرجل ! ليس لي في النبوة رأي ، لو كان رأي من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك .

فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران ، فكلهم قال مثل قول شرحبيل ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة ، وعبد الله بن شرحبيل ، وجبار بن فيض ، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم وسألوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى ابن مريم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغد . فأنزل الله هذه الآية { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } إلى قوله

{ فنجعل لعنة الله على الكاذبين } فأبوا أن يقروا بذلك .

فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له ، وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه : إني أرى أمرا مقبلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك ؟ فقال : رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا . فقالا له : أنت وذاك . فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك قال : وما هو ؟ قال : حكمك اليوم إلى الليل ، وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية " .

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو نعيم في الدلائل عن حذيفة " أن العاقب ، والسيد ، أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له : نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال : قم يا أبا عبيدة . فلما وقف قال : هذا أمين هذه الأمة " .

وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال " قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب ، والسيد ، فدعاهما إلى الإسلام فقالا : أسلمنا يا محمد قال : كذبتما ، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام . قالا : فهات . قال : حب الصليب ، وشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير . قال جابر : فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه إلى الغد ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ بيد علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه ، وأقرا له ، فقال : والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا . قال جابر : فيهم نزلت { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم . . . } الآية . قال جابر : أنفسنا وأنفسكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ، وأبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة " .

وأخرج الحاكم وصححه عن جابر " أن وفد نجران أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما تقول في عيسى ؟ فقال : هو روح الله ، وكلمته ، وعبد الله ، ورسوله ، قالوا له : هل لك أن نلاعنك أنه ليس كذلك ؟ قال : وذاك أحب إليكم ؟ قالوا : نعم . قال : فإذا شئتم . فجاء وجمع ولده الحسن والحسين ، فقال رئيسهم : لا تلاعنوا هذا الرجل فوالله لئن لاعنتموه ليخسفن بأحد الفريقين فجاؤوا فقالوا : يا أبا القاسم إنما أراد أن يلاعنك سفهاؤنا ، وإنا نحب أن تعفينا . قال : قد أعفيتكم ثم قال : إن العذاب قد أظل نجران " .

وأخرج أبو النعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس " أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم . منهم السيد وهو الكبير ، والعاقب وهو الذي يكون بعده ، وصاحب رأيهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : أسلما قالا : أسلمنا . قال : ما أسلمتما . قالا : بلى . قد أسلمنا قبلك . قال : كذبتما يمنعكم من الإسلام ثلاث فيكما : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وزعمكما أن لله ولدا . ونزل { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب . . . } الآية . فلما قرأها عليهم قالوا : ما نعرف ما تقول . ونزل { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } يقول : من جادلك في أمر عيسى من بعد ما جاءك من العلم من القرآن { فقل تعالوا } إلى قوله { ثم نبتهل } يقول : نجتهد في الدعاء أن الذي جاء به محمد هو الحق ، وإن الذي يقولون هو الباطل فقال لهم : إن الله قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا : يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك . فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب : قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ، ولئن لاعنتموه إنه ليستأصلكم ، وما لاعن قوم قط نبيا فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم . فإن أنتم لم تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه علي ، والحسن ، والحسين ، وفاطمة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أنا دعوت فأمنوا أنتم ، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية " .

وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس " أن ثمانية من أساقف العرب من أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب ، والسيد ، فأنزل الله { قل تعالوا ندع أبناءنا } إلى قوله { ثم نبتهل } يريد ندع الله باللعنة على الكاذب . فقالوا : أخرنا ثلاثة أيام ، فذهبوا إلى بني قريظة ، والنضير ، وبني قينقاع ، فاستشاروهم . فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه ، وهو النبي الذي نجده في التوراة . فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر ، وألف في رجب ، ودراهم " .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن قتادة { فمن حاجك فيه } في عيسى { فقل تعالوا ندع أبناءنا . . } الآية " فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وفد نجران ، وهم الذين حاجوه في عيسى فنكصوا وأبوا . وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن كان العذاب لقد نزل على أهل نجران ، ولو فعلوا لاستئصلوا عن وجه الأرض " .

وأخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن الشعبي قال " كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى قولا في عيسى بن مريم ، فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فيه . فأنزل الله هذه الآيات في سورة آل عمران { إن مثل عيسى عند الله } إلى قوله { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } فأمر بملاعنتهم ، فواعدوه لغد ، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن ، والحسين ، وفاطمة ، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة " .

وأخرج عبد الرزاق والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال " لو باهل أهل نجران رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " .

وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية { قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ، وفاطمة ، وحسنا ، وحسينا ، فقال : " اللهم هؤلاء أهلي " .

وأخرج ابن جرير عن غلباء بن أحمر اليشكري قال " لما نزلت هذه الآية { قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم . . . } الآية . أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي ، وفاطمة ، وابنيهما الحسن ، والحسين ، ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود : ويحكم أليس عهدكم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا . فانتهوا " .

وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية { تعالوا ندع أبناءنا . . . } الآية . قال : فجاء بأبي بكر وولده ، وبعمر وولده ، وبعثمان وولده ، وبعلي وولده .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن ابن عباس { ثم نبتهل } نجتهد .

وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا الإخلاص يشير بأصبعه التي تلي الإبهام ، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه ، وهذا الابتهال فرفع يديه مدا " .