معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ} (65)

قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } ، قال الحسن وقتادة : نزلت الآية في أهل الإيمان ، وقال قوم : نزلت في المشركين ، قوله { عذاباً من فوقكم } يعني : الصيحة ، والحجارة ، والريح ، والطوفان . كما فعل بعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم نوح .

قوله تعالى : { أو من تحت أرجلكم } ، يعني : الرجفة والخسف ، كما فعل بقوم شعيب وقارون ، وعن ابن عباس ومجاهد : { عذابا من فوقكم } السلاطين الظلمة ، { ومن تحت أرجلكم } العبيد السوء ، وقال الضحاك : { من فوقكم } من قبل كباركم ، { أو من تحت أرجلكم } أي من أسفل منكم .

قوله تعالى : { أو يلبسكم شيعا } ، أي : يخلطكم فرقا ، ويبث فيكم الأهواء المختلفة .

قوله تعالى : { ويذيق بعضكم بأس بعض } يعني : السيوف المختلفة ، يقتل بعضكم بعضا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر ، قال : لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أعوذ بوجهك الكريم ) ، قال : { أو من تحت أرجلكم } ، قال : أعوذ بوجهك قال : { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا أهون أو هذا أيسر ) .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني ، أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي عرفة ، أنا يعلي بن عبيد الطنافسي ، أنا عثمان بن حكيم ، عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية ، فدخل فصلى ركعتين ، وصلينا معه ، فناجى ربه طويلاً ثم قال : ( سألت ربي ثلاثاً : سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها ) .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا السيد أبو الحسن محمد الحسين بن داود العلوي ، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلويه الدقاق ، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، ثنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدثني أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ، أن عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم : دعا في مسجد فسأل الله ثلاثاً ، فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة ، سأله أن لا يسلط على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض ، فمنعه ذلك .

قوله تعالى : { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ} (65)

56

وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة ! فما هي مرة وتنتهي ، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون :

( قل : هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ، أو من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) . .

وتصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت ، أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال . فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال ! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق ، أو يأخذه من تحت ، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل ، لا مقاومة له ولا ثبات معه ! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه ، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء .

ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله ؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء ؛ لونا آخر بطيئا طويلا ؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار :

( أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض ) . .

وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد ؛ الذي يذوقونه بأيديهم ، ويجرعونه لأنفسهم ؛ إذ يجعلهم شيعا وأحزابا ، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض ، ولا يفاصل بعضها بعضا ، فهي أبدا في جدال وصراع ، وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك . .

ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب ، كلما انحرفت عن منهج الله وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم . . تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور . وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعا وشرائع وقوانين وقيما وموازين من عند أنفسهم ؛ يتعبد بها الناس بعضعهم بعضا ؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر ، والبعض الآخر يأبى ويعارض ، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض . وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم . فيذوق بعضهم بأس بعض ، ويحقد بعضهم على بعض ، وينكر بعضهم بعضا ، لأنهم لا يفيئون جميعا إلى ميزان واحد ؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنوا له كل العبيد ، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارا عن الخضوع له ، ولا يحس في نفسه صغارا حين يخضع له .

إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم ، ثم يزاول هذا الحق فعلا ! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة ؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا ، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض ؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من الله - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص . . ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض ! وهم شيع ؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصله ولا مفاصلة ! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد !

وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها - والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها ؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .

إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب : ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام " دار إسلام " تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هي " الأمة المسلمة " وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه ، جاهلية وأهل جاهلية . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج ؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .

فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز ، حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد ؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود !

إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .

ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله ، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره ، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتهالقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعا .

وطريق هذه الدعوة واحد . ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعا ، صلوات الله عليهم وسلامه :

( انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) . .

والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ} (65)

وقوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لما قال : { ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } عقبه بقوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا [ مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ] }{[10759]} أي : بعد إنجائه إياكم ، كما قال في سورة سبحان : { رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } [ الإسراء : 66 - 69 ] .

قال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هارون الأعور ، عن جعفر بن سليمان ، عن الحسن في قوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : هذه للمشركين .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد [ في قوله ]{[10760]} { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم .

ونذكر هنا الأحاديث الواردة في ذلك والآثار ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، وبه الثقة .

قال البخاري ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } يلبسكم : يخلطكم ، من الالتباس ، يَلْبِسوا : يَخْلطُوا . شيعًا : فرقًا .

حدثنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بوجهك " . { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : " أعوذ بوجهك " . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه أهون - أو قال : هذا أيسر " .

وهكذا رواه أيضا في " كتاب التوحيد " عن قتيبة ، عن حماد ، به{[10761]}

ورواه النسائي [ أيضا ]{[10762]} في " التفسير " ، عن قتيبة ، ومحمد بن النضر بن مساور ، ويحيى بن حبيب بن عربي{[10763]} أربعتهم ، عن حماد بن زيد ، به .

وقد رواه الحميدي في مسنده ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمع جابرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به .

ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى الموصلي ، عن أبي خيثمة ، عن سفيان بن عيينة ، به .

ورواه ابن جرير في تفسيره عن أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع ، وسفيان بن وَكِيع ، كلهم عن سفيان بن عيينة ، به .

ورواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، وعاصم بن علي ، عن سفيان بن عيينة ، به .

ورواه سعيد بن منصور ، عن حماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، كلاهما عن عمرو بن دينار ، به{[10764]}

طريق أخرى : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا مقدام ابن داود ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا بن لهيعة ، عن خالد بن يزيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما نزلت : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بالله من ذلك " { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بالله من ذلك " { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } قال : " هذا أيسر " ، ولو استعاذه لأعاذه{[10765]}

ويتعلق بهذه الآية [ الكريمة ]{[10766]} أحاديث كثيرة :

أحدها : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا أبو بكر - هو ابن أبي مريم - عن راشد - هو ابن سعد المقرئي - عن سعد بن أبي وقاص [ رضي الله عنه ]{[10767]} قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فقال : " أما إنها كائنة ، ولم يأت تأويلها بعد " .

وأخرجه الترمذي ، عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، به{[10768]} ثم قال : هذا حديث غريب . [ جدا ]{[10769]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى - هو ابن عبيد - حدثنا عثمان بن حكيم ، عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى مررنا على مسجد بني معاوية ، فدخل فصلى ركعتين ، فصلينا معه ، فناجى ربه ، عَزَّ وجل ، طويلا قال{[10770]} سألت ربي ثلاثا " سألته ألا يهلك أمتي بالغرق ، فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة ، فأعطانيها . وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها " .

انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه{[10771]} في " كتاب الفتن " عن أبي بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله ابن نمير ، كلاهما عن عبد الله بن نمير - وعن محمد بن يحيى بن أبي عمر ، عن مروان بن معاوية ، كلاهما عن عثمان بن حكيم ، به{[10772]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : قرأت على عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن مالك ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك ، عن جابر بن عتيك ؛ أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية - قرية من قرى الأنصار - فقال لي : هل تدري{[10773]} أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا ؟ فقلت : نعم . فأشرت إلى ناحية منه ، فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعا بِهِنّ فيه ؟ فقلت : نعم . فقال : وأخبرني{[10774]} بهن ، فقلت{[10775]} دعا ألا يُظْهِر عليهم عدوا من غيرهم ، ولا يهلكهم بالسنين ، فَأُعْطِيْهِمَا ، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم ، فَمُنِعَهَا . قال : صدقت ، فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة " {[10776]}

ليس هو في شيء من الكتب الستة ، وإسناده جيد قوي ، ولله الحمد والمنة .

حديث آخر : قال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم بن عباد عن حُنَيف{[10777]} عن علي بن عبد الرحمن ، أخبرني حذيفة بن اليمان قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية ، قال : فصلى ثماني ركعات ، فأطال فيهن ، ثم التفت إليّ فقال : حبستك ؟ قلت{[10778]} الله ورسوله أعلم . قال : إني سألت الله ثلاثًا ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألته ألا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم ، فأعطاني{[10779]} وسألته ألا يهلكهم بغرق ، فأعطاني . وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعني " .

رواه ابن مَرْدُوَيه من حديث ابن إسحاق{[10780]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبيدة بن حميد ، حدثني سليمان الأعمش ، عن رجاء الأنصاري ، عن عبد الله بن شداد ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلبه فقيل لي : خرج قَبْلُ . قال : فجعلت لا أمر بأحد إلا قال : مر قبل . حتى مررت فوجدته قائما يصلي . قال : فجئت حتى قمت خلفه ، قال : فأطال الصلاة ، فلما قضى صلاته{[10781]} قلت : يا رسول الله ، لقد صليت صلاة طويلة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، سألت الله ، عَزَّ وجل ، ثلاثا فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة . سألته ألا يهلك أمتي غرقا ، فأعطاني{[10782]} وسألته ألا يُظْهِر عليهم عدوا ليس منهم ، فأعطانيها . وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فردها علي " .

ورواه ابن ماجه في " الفتن " عن محمد بن عبد الله بن نمير ، وعلي بن محمد ، كلاهما عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، به{[10783]}

ورواه ابن مَرْدُوَيه من حديث أبي عَوَانة ، عن عبد الله{[10784]} بن عُمَيْر ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله أو نحوه .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بُكَيْر{[10785]} بن الأشج ، أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه ، عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سُبْحَة الضحى ثماني ركعات . فلما انصرف قال : " إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين ، ففعل . وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم ، ففعل . وسألته ألا يَلْبِسَهُم شيعًا ، فأبى عليّ " .

رواه النسائي في الصلاة ، عن محمد بن سلمة ، عن ابن وهب ، به . {[10786]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، قال : قال الزهري : حدثني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبيه خباب بن الأرت - مولى بني زهرة ، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال : راقبت{[10787]} رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها ، حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ، قلت{[10788]} يا رسول الله ، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أجل ، إنها صلاة رَغَب ورَهَب . سألت ربي ، عَزَّ وجل ، فيها ثلاث خصال ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا ، فأعطانيها . وسألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا ، فأعطانيها . وسألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يلبسنا شيعًا ، فمنعنيها " .

ورواه النسائي من حديث شعيب بن أبي حمزة ، به{[10789]} ومن وجه آخر . وابن حبان في صحيحه ، بإسناديهما عن صالح بن كيسان - والترمذي في " الفتن " من حديث النعمان بن راشد - كلاهما عن الزهري ، به{[10790]} وقال : حسن صحيح .

حديث آخر : قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره : حدثني زياد بن عبيد الله{[10791]} المزني ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا أبو مالك ، حدثني نافع بن خالد الخزاعي ، عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود ، فقال : " قد كانت صلاة رَغْبَة ورَهْبَة ، سألت الله ، عَزَّ وجل ، فيها ثلاثا ، أعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألت الله ألا يصيبكم بعذاب أصاب به من قبلكم ، فأعطانيها . وسألت الله ألا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم ، فأعطانيها . وسألته ألا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها " . قال أبو مالك : فقلت له : أبوك سمع هذا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

فقال : نعم ، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم{[10792]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق قال : قال مَعْمَر ، أخبرني أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أبي أسماء الرَّحْبي ، عن شداد بن أوْس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله زَوَى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها ، وإن مُلْك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها ، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر ، وإني سألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يهلك أمتي بسنَة بعامة وألا يسلط عليهم عدوّا فيهلكهم بعامة ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض . فقال : يا محمد ، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد . وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكتهم{[10793]} بسنة بعامة ، وألا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، وبعضهم يقتل بعضا ، وبعضهم يسبي بعضا " . قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم " وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين ، فإذا وضع السيف في أمتي ، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة " {[10794]}

ليس في شيء من الكتب الستة ، وإسناده{[10795]} جيد قوي ، وقد رواه ابن مَرْدُوَيه من حديث حماد ابن زيد ، وعباد بن منصور ، وقتادة ، ثلاثتهم عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثَوْبان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه{[10796]} فالله أعلم{[10797]}

حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي وميمون بن إسحاق بن الحسن الحنفي قالا حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن نافع بن خالد الخزاعي ، عن أبيه قال - وكان أبوه من أصحاب رسول الله{[10798]} صلى الله عليه وسلم ، وكان من أصحاب الشجرة - : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى والناس حوله ، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود . قال : فجلس يوما فأطال الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض : أن اسكتوا ، إنه ينزل عليه . فلما فرغ قال له بعض القوم : يا رسول الله ، لقد أطلت الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض : إنه ينزل عليك . قال : " لا ولكنها كانت صلاة رَغْبة ورهبة ، سألت الله فيها ثلاثا فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة . سألت الله ألا يعذبكم بعذاب عذب به من كان قبلكم ، فأعطانيها . ألا يسلط{[10799]} على أمتي{[10800]} عدوا يستبيحها ، فأعطانيها . وسألته ألا يَلْبسَكم شِيعًا وألا يذيق بعضكم بأس بعض ، فمنعنيها " ، قال : قلت له : أبوك سمعها من رسول الله صلى الله عليه ؟ قال : نعم ، سمعته يقول : إنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدد أصابعي هذه ، عشر أصابع{[10801]}

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس - هو ابن محمد المؤدب - حدثنا ليث - هو ابن سعد عن أبي وهب الخولاني ، عن رجل قد سماه ، عن أبي بَصْرَة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سألت ربي ، عَزَّ وجل ، أربعًا فأعطاني ثلاثًا ، ومنعني واحدة . سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلالة ، فأعطانيها . وسألت الله ألا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ، فأعطانيها . وسألت الله ألا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم ، فأعطانيها . وسألت الله ، عَزَّ وجل ، ألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعنيها " {[10802]}

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة .

حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا أبو حذيفة الثعلبي ، عن زياد بن عِلاقة ، عن جابر بن سَمُرَة السَّوَائي ، عن علي [ رضي الله عنه ]{[10803]} ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة ، فقلت : يا رب ، لا تهلك أمتي جوعا فقال : هذه لك . قلت : يا رب ، لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم - يعني أهل الشرك - فيجتاحهم . قال ذلك لك{[10804]} قلت : يا رب ، لا تجعل بأسهم بينهم " . قال : " فمنعني هذه " {[10805]}

حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد بن عاصم ، حدثنا أبو الدرداء المروزي ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، حدثني أبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دعوت ربي ، عَزَّ وجل ، أن يرفع عن أمتي أربعًا ، فرفع الله عنهم اثنتين ، وأبى عليّ أن يرفع عنهم اثنتين . دعوت ربي أن يرفع الرجم{[10806]} من السماء ، والغرق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعًا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع اثنتين : القتل ، والهَرج " .

طريق أخرى عن ابن عباس أيضا : قال ابن مَرْدُوَيه : حدثني عبد الله بن محمد بن زيد{[10807]} حدثني الوليد بن أبان ، حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ، ثم قال : " اللهم لا ترسل على أمتي عذابًا من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم ، ولا تلبسهم شيعا ، ولا تذق{[10808]} بعضهم بأس بعض " قال : فأتاه جبريل فقال : يا محمد ، إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم{[10809]}

حديث آخر : قال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله البزار ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى ، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا عمرو بن محمد العَنْقَزِي ، حدثنا أسباط ، عن السُّدِّي ، عن أبي المِنْهَال ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سألت ربي لأمتي أربع خصال ، فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة . سألته ألا تكفر أمتي واحدة ، فأعطانيها . وسألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم ، فأعطانيها . وسألته ألا يظهر عليهم عدوًا من غيرهم ، فأعطانيها . وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها " .

ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد بن يحيى بن سعيد القطَّان ، عن عمرو بن محمد العنقزي ، به نحوه{[10810]}

طريق أخرى : وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا زيد بن الحُباب ، حدثنا كثير بن زيد الليثي المدني ، حدثني الوليد بن رباح مولى آل أبي ذُبَاب ، سمع أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " سألت ربي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألته ألا يسلط على أمتي عدوًا من غيرهم{[10811]} فأعطاني . وسألته ألا يهلكهم بالسنين ، فأعطاني . وسألته ألا يلبسهم{[10812]} شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعني " .

ثم رواه ابن مَرْدُوَيه بإسناده عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه . ورواه البزار من طريق عمر{[10813]} بن سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه{[10814]}

أثر آخر : قال سفيان ، الثوري عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : أربعة من{[10815]} هذه الأمة : قد مضت ثنتان ، وبقيت ثنتان : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال : الرجم . { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : الخسف . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال سفيان : يعني : الرجم والخسف .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : فهي أربع خلال ، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، أُلبِسوا شيعًا ، وذاق بعضهم بأس بعض ، وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان{[10816]} الرجم والخسف .

ورواه أحمد ، عن وَكِيع ، عن أبي جعفر . ورواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن ، في قوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ [ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ] }{[10817]} الآية ، قال : حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها ، فلما عمل ذنبها أرسلت عقوبتها .

وهكذا{[10818]} قال سعيد بن جُبَيْر ، وأبو مالك ومجاهد ، والسُّدِّي وابن زيد في قوله : { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } يعني : الرجم . { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني : الخسف . وهذا هو اختيار ابن جرير .

ورواه ابن جرير ، عن يونس ، عن ابن وَهْب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : كان عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[10819]} يصيح وهو في المجلس - أو على المنبر - يقول : ألا أيها الناس ، إنه قد نزل بكم .

إن الله يقول : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ] }{[10820]} لو جاءكم عذاب من السماء ، لم يبق منكم أحدا { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لو خسف{[10821]} بكم الأرض أهلككم ، لم يبق منكم أحدا { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث .

قول ثان : قال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وَهْب ، سمعت خلاد بن سليمان يقول : سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول : إن ابن عباس كان يقول في هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } فأما العذاب من فوقكم ، فأئمة السوء { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فخدم السوء .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } يعني : أمراءكم . { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني : عبيدكم وسفلتكم .

وحكى ابن أبي حاتم ، عن أبي سنان وعمير بن هانئ ، نحو ذلك .

وقال ابن جرير : وهذا القول وإن كان له وجه صحيح ، لكن الأول أظهر وأقوى .

وهو كما قال{[10822]} ابن جرير ، رحمه الله ، ويشهد له بالصحة قوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ]{[10823]} } [ الملك : 16 - 18 ] ، وفي الحديث : " ليكونن في هذه الأمة قَذْفٌ وخَسْفٌ ومَسْخٌ " {[10824]} وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الآيات قبل يوم القيامة ، وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى .

وقوله : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } أي : يجعلكم ملتبسين شيعا فرقا متخالفين . قال الوالبي ، عن ابن عباس : يعني : الأهواء وكذا قال مجاهد وغير واحد .

وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " .

وقوله : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال ابن عباس وغير واحد : يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل .

وقوله : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : نبينها ونوضحها ونُقِرُّهَا{[10825]} { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه .

قال زيد بن أسلم : لما نزلت { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ] }{[10826]} الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رِقاب بعض بالسيوف{[10827]} . قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ؟ قال : " نعم " . فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبدا ، أن يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون ، فنزلت : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }

رواه ابن أبي حاتم وابن جرير{[10828]}


[10759]:زيادة من أ.
[10760]:زيادة من أ.
[10761]:صحيح البخاري برقمي (4628)، (7406)
[10762]:زيادة من أ.
[10763]:في أ: "عدي".
[10764]:النسائي في السنن الكبرى برقم (11164) ومسند الحميدي (2/530) ومسند أبي يعلى (3/362) وتفسير الطبري (11/422)
[10765]:وفي إسناده عبد الله بن لهيعة وقد اختلط.
[10766]:زيادة من أ.
[10767]:زيادة من أ.
[10768]:المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3066).
[10769]:زيادة من أ.
[10770]:في أ: "ثم قال"
[10771]:في أ: "ورواه".
[10772]:المسند (1/175) وصحيح مسلم برقم (2890).
[10773]:في أ: "ترى".
[10774]:في م، أ: "قال: فأخبرني".
[10775]:في م: "فقال".
[10776]:المسند (5/445) وقال الهيثمي في المجمع (7/221): "رجاله ثقات".
[10777]:في أ: "عن خصيف".
[10778]:في أ: "حسبك يا حذيفة فقلت".
[10779]:في أ: "فأعطانيها".
[10780]:ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (10/318) من طريق عبد الله بن نمير عن محمد بن إسحاق به.
[10781]:في جـ: "الصلاة".
[10782]:في أ: "فأعطانيها".
[10783]:المسند (5/240) وسنن ابن ماجه برقم (3951).
[10784]:في م: "عبد الملك".
[10785]:في أ: "بكر".
[10786]:المسند (2/146).
[10787]:في م: "وافيت".
[10788]:في أ: "فقلت"
[10789]:المسند (5/108) وسنن النسائي (3/216).
[10790]:النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (3/115) وصحيح ابن حبان (9/180) "الإحسان"، وسنن الترمذي برقم (2175)
[10791]:في أ: "عبد الله".
[10792]:تفسير الطبري (11/433) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/192) والبزار في مسنده برقم (3289) "كشف الأستار" من طريق مروان بن معاوية به.
[10793]:في م، أ: "يهلكهم".
[10794]:المسند (4/123) وقال الهيثمي في المجمع (7/221): "رجال أحمد رجال الصحيح"
[10795]:في أ: "وإسناد".
[10796]:ورواه مسلم في صحيحه برقم (2889) من طريق حماد بن زيد به ورواه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي قلابة به ولم يذكر أيوب.
[10797]:في أ: "والله أعلم".
[10798]:في م، أ: "النبي".
[10799]:في م، أ: "فأعطانيها، وسألته ألا يسلط".
[10800]:في م: "عامتكم".
[10801]:ورواه البزار في مسنده برقم (3289) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (4/192) من طريق أبي مالك الأشجعي عن نافع عن أبيه به.
[10802]:المسند (6/396) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/280) من طريق الليث به.تنبيه: وقع في المسند كما هو هنا: "أبو وهب الخولاني" وفي المعجم الكبير للطبراني: "أبو هانئ الخولاني" وهو الصحيح، كما ذكره المزي في تهذيب الكمال (7/401) وابن عبد البر في الاستغناء (2/976).
[10803]:زيادة من أ.
[10804]:في م: "لك ذلك".
[10805]:المعجم الكبير للطبراني (1/107) وقال الهيثمي في المجمع (7/222): " فيه أبو حذيفة الثعلبي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
[10806]:في م، أ: "يرفع عنهم الرجم".
[10807]:في أ: "يزيد".
[10808]:في أ: "لا تذيق" وهو خطأ.
[10809]:ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/374) من طريق أبي الدرداء المروزي به، وفي إسناده من لم أعرفهم.
[10810]:ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4336) "مجمع البحرين" من طريق القطيعي عن عمرو بن محمد العنقزي به. قال الهيثمي في المجمع (7/222): "رجاله ثقات".
[10811]:في أ: " من غيرهم فأعطاني".
[10812]:في م: "يلبسها".
[10813]:في أ: "عمرو".
[10814]:مسند البزار برقم (3290) "كشف الأستار".
[10815]:في أ: "في".
[10816]:في أ: "وقفتان".
[10817]:زيادة من م، أ.
[10818]:في أ: "وكذا".
[10819]:زيادة من أ.
[10820]:زيادة من أ.
[10821]:في م، أ: "يخسف".
[10822]:في أ: "قاله".
[10823]:زيادة من م، أ.
[10824]:رواه أحمد في مسنده (2/163) من حديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه.
[10825]:في أ: "ونفسرها".
[10826]:زيادة من أ.
[10827]:في أ: بالسيف".
[10828]:تفسير الطبري (11/430).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبۡعَثَ عَلَيۡكُمۡ عَذَابٗا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ يَلۡبِسَكُمۡ شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَفۡقَهُونَ} (65)

{ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } .

استئناف ابتدائي عُقّب به ذكرُ النعمة التي في قوله : { قل من يُنجّيكم } بذكر القدرة على الانتقام ، تخويفاً للمشركين . وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبيَّن عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] . والمعنى قل للمشركين ، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون . والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنَّها معلومة ، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأنّ القادر من شأنه أن يُخاف بأسُه فالخبر مستعمل في التعريض مجازاً مرسلاً مركّباً ، أو كناية تركيبية . وهذا تهديد لهم ، لقولهم { لولا أنزل عليه آية من ربِّه } [ يونس : 20 ] .

وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر ، فأفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأنّ غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام ، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته ، فالقصر المستفاد إضافي . والتعريف في { القادر } تعريف الجنس ، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب .

والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح ، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان .

و{ يلبسكم } مُضارع لَبَسَه بالتحريك أي خلطه ، وتعدية فعل { يلبسكم } إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومَرجه ، أي اضطراب شؤونهم ، فإنّ استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سمَّيت استقامة أمور الناس نظاماً . وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء ، ولذلك سمّي مَرَجاً ولَبْساً . وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمّة ، ولذلك يقرن الهَرْج وهو القتل بالمَرْج ، وهو الخلط فيقال : هم في هَرْج ومَرْج ، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة .

وانتصب { شِيَعاً } على الحال من الضمير المنصوب في { يَلْبِسَكم } . والشيَع جمع شيعة بكسر الشين وهي الجماعة المتَّحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متّفقون عليه ، قال تعالى : { إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيَاً لست منهم في شيء } [ الأنعام : 159 ] . وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى : { وإنّ من شيعته لإبراهيم } [ الصافات : 83 ] أي من شيعة نوح .

وتشتّت الشيع وتعدّد الآراء أشدّ في اللبس والخلط ، لأنّ اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام .

وعطف عليه { ويذيق بعضَكم بأس بعض } لأنّ من عواقب ذلك اللبس التقاتل . فالبأس هو القتل والشرّ ، قال تعالى : { وسرابيل تقيكم بأسكم } [ النحل : 81 ] . والإذاقة استعارة للألم .

وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية . وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يومَ بدر وفي غزوات كثيرة .

في « صحيح البخاري » عن جابر بن عبد الله قال : " لما نزلتْ { قُلْ هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال رسول صلى الله عليه وسلم أعوذُ بوجهك . قال : { أوْ من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك قال : { أو يلبِسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله : هذا أهون ، أو هذا أيسر " اه . واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك خشية أن يعمّ العذاب إذا نزل على الكافرين مَن هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى : { واتَّقُوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [ الأنفال : 25 ] وفي الحديث قالوا : « يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث » وفي الحديث الآخر « ثم يُحْشَرُون على نيّاتهم » ومعنى قوله : هذه أهون ، أنّ القتل إذا حلّ بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنَّه أهون لأنَّه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين ، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين . وفي الحديث : « لا تتمنَّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية » وبعض العلماء فسّر الحديث بأنَّه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين . ويتَّجه عليه أن يقال : لماذا لم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين ، فلعلّه لأنه أوحي إليه أنّ ذلك يقع في المسلمين ، ولكن الله وعده أن لا يسلِّط عليهم عدوّاً من غير أنفسهم . وليست استعاذته بدالة على أنّ الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، ولا أنَّها تهديد للمشركين والمؤمنين ، كما ذهب إليه بعض السلف ؛ إلاّ على معنى أنّ مفادها غيرَ الصريح صالح للفريقين لأنّ قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين ، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا . وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملاً في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحاً وكناية ولا يناسب المجاز المركّب المتقدّم بيانه .

{ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الايات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .

استئناف وردَ بعد الاستفهامين السابقين . وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه ، وقد مضى في تفسير قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ]

وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى . فالمراد بالآيات آيات القرآن . وتقدّم معنى التصريف عند قوله تعالى : { انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون } في هذه السورة [ 46 ] .

{ ولعلّهم يفقهون } استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات ، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنَّهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلَّها تتذكَّر وترعوي .

وتقدّم القول في معنى ( لعلّ ) عند قوله تعالى : { لعلّكم تتّقون } في سورة [ البقرة : 21 ] .

وتقدّم معنى الفقه عند قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة [ النساء : 78 ] .