قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } . يعني المنافقين ، عبد الله بن أبي وأصحابه ، ( وقالوا لإخوانهم ) في النفاق والكفر ، وقيل : في النسب .
قوله تعالى : { إذا ضربوا في الأرض } . أي سافروا فيها لتجارة أو غيرها .
قوله تعالى : { أو كانوا غزى } . أي غزاةً جمع غاز فقتلوا .
قوله تعالى : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك } . يعني قولهم وظنهم .
قوله تعالى : { حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير } . قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعملون بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة ، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر ، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) . .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة ، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة ، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . . وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد ، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم ، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
إن قول الكافرين : ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها ، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ، ولا يتلقى السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة ، كله قبل الإقدام والحركة ؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج ، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . . توازن بين العمل والتسليم ، وبين الإيجابية والتوكل ، يستقيم عليه الخطو ، ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة ، فهو أبدا مستطار ، أبدا في قلق ! أبدا في " لو " و " لولا " و " يا ليت " و " وا أسفاه " !
والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات ، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق ، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية ، بسبب انقطاعهم عن الله ، وعن قدره الجاري في الحياة .
( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا ، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . . إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل ، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ، ونداء المضجع ، وقدر الله ، وسنته في الموت والحياة ، ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ، ولفاءوا إلى الله راضين :
فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم ، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء ، وعنده العروض ، عن خبرة وعن علم وعن بصر :
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد ، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي{[5977]} الحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم . فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ } أي : عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } أي : سافروا للتجارة ونحوها {[5978]} { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي : في الغزو { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا } أي : في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا }{[5979]} أي : ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو .
وقوله : { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم{[5980]} ثم قال تعالى ردا عليهم : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره ، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء .
نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد ، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، وهو نحو منه ، وقوله تعالى : { لإخوانهم } هي أخوة نسب ، لأن قتلى -أحد- كانوا من الأنصار ، أكثرهم من الخزرج ، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلى أربعة ، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما ، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه ، وقيل : بل قالها جميع المنافقين ، ودخلت { إذا } في هذه الآية وهي حرف استقبال ، من حيث { الذين } اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان ، ويطرد النهي للمؤمنين فيها ، فوضعت { إذا } لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان ، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي ، كما قال تعالى : { والله يدعو إلى دار السلام }{[3645]} إلى نحوها من الآيات وكما قالت :
وفينا نبي يعلم ما في غد{[3646]} . . .
كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر ، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع ، فمن ذلك قول الشاعر :
وَإنّي لآتيكم تَشَكُّرَ ما مَضَى . . . مِنَ الأَمْرِ واسْتيجَاب مَا كَانَ في غَدِ{[3647]}
أَصْبَحْتُ لا أَمْلِكُ السلاحَ وَلاَ . . . أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا
و «الضرب في الأرض » : الإبعاد في السير ، ومنه ضرب الدهر ضربانه : إذا بعدت المدة ، وضرب الأرض : هو الذهاب فيها لحاجة الإنسان خاصة بسقوط «في » وقال السدي وغيره : في هذه الآية ، الضرب في الأرض : السير في التجارة ، وقال ابن إسحاق وغيره : بل هو السير في جميع طاعات الله ورسوله ، والضرب في الأرض يعم القولين ، و { غزى } : جمع غاز ، وزنه -فعل- بضم الفاء وشد العين المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول ، وينشد بيت رؤبة : [ الرجز ]
فالآنَ قَدْ نَهْنَهَني تَنَهْنُهِي . . . وَقَوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ
( وقول ، الاده فلاده ) {[3648]} . . . يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبداً ، وهو مثل معناه : إن لم تكن كذا فلا تكن كذا ، وقد روي ، وقولهم إلا ده فلاده ، قال سيبويه وغيره : لا يدخل { غزى } الجر ولا الرفع ، وقرأته عامة القراء بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري ، «غزى » مخففة الزاي ، ووجهه إما أن يريد غزاة ، فحذف الهاء إخلاداً إلى لغة من يقول «غزّى » بالتشديد ، وهذ الحرف كثير في كلامهم ، قول الشاعر يمدح الكسائيّ{[3649]} : [ الطويل ]
أَبى الذَّمُّ أَخْلاَقَ الكِسَائيّ وانتمى . . . بهِ الْمَجْدُ أخْلاق الأُبُوِّ السوابقِ
يريد الأبوة جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوة جمع ابن وقد قالوا : ابن وبنو ، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفاً للزاي من «غزى » ، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
{ وكذبوا بآياتنا كذاباً }{[3650]} في قول من قال : إنه تخفيف ، وقد قيل : إنه مصدر جرى على غير المصدر ، وقرأ الحسن «وما قتّلوا » مشددة التاء ، وقوله تعالى : { ليجعل الله ذلك } قال مجاهد : معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم .
قال القاضي : فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتقين أن كل موت وقتل فبأجل سابق ، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت ، يتحسر ويتلهف ، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون ، وهو أظهر ما في الآية ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد ، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم ، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله «والحسرة » : التلهف على الشيء والغم به ، ثم أخبر تعالى خبراً جزماً أنه الذي { يحيى ويميت } بقضاء حتم ، لا كما يعتقد هؤلاء ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : «والله بما يعملون » بالياء ، فهذا وعيد للمنافقين ، وقرأ الباقون «تعملون » بالتاء على مخاطبة المؤمنين ، فهذا توكيد للنهي في قوله { لا تكونوا } ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله .
تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين ، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً . والكلام استئناف . والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعاً بعد تقريع فريق منهم الَّذين تولّوا يوم التقى الجمعان . واللام في قولهم : { لإخوانهم } ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلّة كقوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } لأنّ الإخوان ليسوا متكلّماً معهم بل هم الَّذين ماتوا وقُتلوا ، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب ، أي من الخزرج المؤمنين ، لأنّ الشهداء من المؤمنين .
و ( إذ ) هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ ( قالوا وضَربوا ) ، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله : { ما ماتوا } تقديره : فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو .
والضرب في الأرض هو السفر ، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللَّه } [ المزمل : 20 ] ، وعلى مطلق السفر كما هنا ، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } [ النساء : 94 ] وقوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } [ النساء : 101 ] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الَّذي يلومهم عليه الكفار ، وقيل : أريد بالضرب في الأرض التجارة .
وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار .
و { غُزًّى } جمع غاز . وفُعَّل قليل في جمع فَاعل الناقص . وهو مع ذلك فصيح . ونظيره عُفَّى في قول امرىء القيس :
لَهَا قُلُب عُفَّى الحِيَاضضِ أُجُونُ
وقوله : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } علّة ل ( قَالوا ) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيهاً للنَّهي عن التشبيه بهم أي فإنَّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحِقَكم أثره كما لحقهم ، فالإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى القول الدال على الاعتقاد ، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه . وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : لا تكونوا كالَّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم ، فيكون قوله : { ليجعل } على هذا الوجه من صلة ( الّذين ) ، ومن جملة الأحوال المشبّه بها ، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ .
والحَسرة : شدّة الأسف أي الحُزن ، وكانَ هذا حسرة عليهم لأنَّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم ، وأنَّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على مافتهم . والمؤمن يبذل جهده فإذا خَابَ سَلَّم لْحكم القدر .
وقوله : { والله بما تعملون بصير } تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه .