معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

قوله تعالى : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا } ، محمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { يبين لكم } أعلام الهدى ، وشرائع الدين .

قوله تعالى : { على فترة من الرسل } أي انقطاع من الرسل . واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، قال أبو عثمان النهدي : ستمائة سنة ، وقال قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال معمر والكلبي : خمسمائة وأربعون سنة ، وسميت فترة ، لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام ، من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام ، ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { أن تقولوا } ، كيلا تقولوا .

قوله تعالى : { ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

وينهي هذا البيان ، بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب ، يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام المصير وجها لوجه . بلا غبش ولا عذر ، ولا غموض :

( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل . . أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير ) . .

وبهذه المواجهة الحاسمة ، لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج . . لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم . فالله - سبحانه - يقول :

يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا . .

ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل ؛ يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف . . فقد جاءهم - الآن - بشير ونذير . .

ثم يذكرهم أن الله لا يعجزة شيء . . لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين . ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون :

( والله على كل شيء قدير ) . .

وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب ؛ فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل . وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين . وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي ؛ وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين . .

وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية ؛ وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى . وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا . . إلى الصراط المستقيم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى : إنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا{[9459]} خاتم النبيين ، الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ؛ ولهذا قال : { عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } أي : بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم .

وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة ، كم هي ؟ فقال أبو عثمان النَّهْديّ وقتادة - في رواية عنه - : كانت ستمائة سنة . ورواه البخاري عن سلمان الفارسي . وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال مَعْمَر ، عن بعض أصحابه : خمسمائة وأربعون سنة . وقال : الضحاك : أربعمائة{[9460]} وبضع وثلاثون سنة .

وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى ، عليه السلام{[9461]} عن الشعبي أنه قال : ومنْ رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث{[9462]} وثلاثون سنة .

والمشهور هو الأول ، وهو أنه ستمائة سنة . ومنهم من يقول : ستمائة وعشرون سنة . ولا منافاة بينهما ، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية ، والآخر أراد قمرية ، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث{[9463]} سنين ؛ ولهذا قال تعالى في قصة أصحاب الكهف : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } [ الكهف : 25 ] أي : قمرية ، لتكميل الثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل{[9464]} الكتاب . وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم ، آخر أنبياء بني إسرائيل ، وبين محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[9465]} خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن{[9466]} أولى الناس بابن مريم ؛ لأنه لا نبي بيني وبينه{[9467]} {[9468]} هذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى [ عليه السلام ]{[9469]} نبي ، يقال له : خالد بن سنان ، كما حكاه القضاعي وغيره .

والمقصود أن الله [ تعالى ]{[9470]} بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، وطُمُوس من السبل ، وتَغَير الأديان ، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتم النعم ، والحاجة إليه أمر عَمَم ، فإن الفساد كان قد عم{[9471]} جميع البلاد ، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد ، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين ، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام حدثنا قتادة ، عن مُطَّرَّف ، عن عياض بن حِمَار المُجَاشِعِيِّ ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : " وإن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمني في يومي هذا : كل مال نَحَلْته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضَلَّتْهُم{[9472]} عن دينهم ، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم ، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله ، عز وجل ، نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ ، عجَمَهم وعَرَبَهُم ، إلا بقايا من أهل الكتاب{[9473]} وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويَقْظان ، ثم إن الله أمرني أن أُحَرِّقَ قريشا ، فقلت : يا رب ، إذن يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خُبْزة ، فقال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نُغْزِك ، وأنفق عليهم فَسَنُنفق عليك ، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله{[9474]} وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مُقْسِطٌ مُتصدِّق موفق{[9475]} ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عَفِيف فقير{[9476]} متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زَبْرَ{[9477]} له ، الذين هم فيكم تَبْعًا أو تُبعاء - شك يحيى - لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ وإن دَقَّ إلا خانه ، ورجل لا يُصْبِح ولا يُمْسِي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك " ، وذكر البخيل{[9478]} أو الكذب ، " والشِّنْظير : الفاحش " . {[9479]}

ثم رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، والنسائي من غير وجه ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشّخير . وفي رواية سعيد{[9480]} عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف . وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده : أن قتادة لم يسمعه من مطرف ، وإنما سمعه من أربعة ، عنه . ثم رواه هو ، عن روح ، عن عوف ، عن حكيم الأثرم ، عن الحسن قال : حدثني مطرف ، عن عياض بن حمَار ، فذكره . و [ كذا ]{[9481]} رواه النسائي من حديث غُنْدَر ، عن عوف الأعرابي به . {[9482]}

والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله : " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل " . وفي لفظ مسلم : " من أهل الكتاب " . وكان{[9483]} الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم ، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فهدى الخلائق ، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ، وتركهم على المحَجَّة البيضاء ، والشريعة الغرَّاء ؛ ولهذا قال تعالى : { أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } أي : لئلا تحتجوا وتقولوا{[9484]} - : يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه - ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ، فقد جاءكم بشير ونذير ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قال ابن جرير : معناه : إني قادر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني .


[9459]:في ر: "محمد".
[9460]:في أ: "أربعمائة سنة".
[9461]:تاريخ دمشق لابن عساكر (14/30 القسم المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (20/86).
[9462]:في أ: "ثلاثة".
[9463]:في أ: "ثلاثة".
[9464]:في ر، أ: "عند أهل".
[9465]:زيادة من أ.
[9466]:في ر، أ: "أنا".
[9467]:في ر: "لم يكن بيني وبينه نبي".
[9468]:صحيح البخاري برقم (3442).
[9469]:زيادة من أ.
[9470]:زيادة من أ.
[9471]:في ر: "عمم".
[9472]:في أ: "فاحتالتهم".
[9473]:في ر، أ: "إلا بقايا من بني إسرائيل أهل الكتاب".
[9474]:في أ: "أمثالهم".
[9475]:في أ: "موقن".
[9476]:في أ: "فقير ذو عيال".
[9477]:في أ: "رض".
[9478]:في ر، أ: "البخل".
[9479]:المسند (4/162).
[9480]:في ر، أ: "شعبة".
[9481]:زيادة من ر، أ.
[9482]:المسند (4/162) وصحيح مسلم برقم (2865) وسنن النسائي الكبرى برقم (8071).
[9483]:في ر، أ: "فكان"
[9484]:في ر، أ: "يحتجوا ويقولوا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَىَ فَتْرَةٍ مّنَ الرّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : يا أهْلَ الكِتابِ اليهود الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الاَية . وذلك أنهم أو بعضهم فيما ذُكِر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الايمان به وبما جاءهم به من عند الله ، قالوا : ما بعث الله من نبيّ بعد موسى ، ولا أنزل بعد التوراة كتابا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثين محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود ، اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته . فقال رابع بن حَرْملة وهب بن يهوذا : أما قلنا هذا لكم وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده . فأنزل الله عزّ وجلّ في ( ذلك من ) قولهما : يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ أنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنّ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

ويعني بقوله جلّ ثناؤه : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا : قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا ، يُبَيّنُ لَكُمْ يقول : يعرّفكم الحقّ ، ويوضح لكم أعلام الهدى ، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَينُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحقّ والباطل ، فيه بيان الله ونوره وهداه ، وعصمة لمن أخذ به .

عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ يقول : على انقطاع من الرسل . والفّترة في هذا الموضع : الانقطاع ، يقول : قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحقّ والهدى على انقطاع من الرسل . والفترة : الفَعْلة ، من قول القائل : فَتَر هذا الأمر يَفْتُر فتورا ، وذلك إذا هدأ وسكن ، وكذلك الفَترة في هذا الموضع معناها : السكون ، يراد به سكون مجِييء الرسُل ، وذلك انقطاعها .

ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة ، فاختُلف في الرواية في ذلك عن قتادة . فروى معمر عنه ، ما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم خمسمائة وستون سنة . وروى سعيد بن أبي عَرُوبة عنه ، ما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة ، أو ما شاء من ذلك الله أعلم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه ، قوله : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَينُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم خمسمائة سنة وأربعون سنة . قال معمر : قال قتادة : خمسمائة سنة وستون سنة . وقال آخرون بما :

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة .

ويعين بقوله : أنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ : أن لا تقولوا ، وكي لا تقولوا ، كما قال جلّ ثناؤه : يُبّينُ اللّهُ لكُمْ أنْ تَضِلّوا بمعنى : أن لا تضلوا ، وكي لا تضلوا . فمعنى الكلام : قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، كي لا تقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير . يُعلمهم عزّ ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ إليهم في الحجة . ويعني بالبشير : المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله وعمل بما آتاه من عند الله بعظيم ثوابه في آخرته ، وبالنذير المنذر من عصاه وكذّب رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بما لا قِبَل له به من أليم عقابه في معاده وشديد عذابه في قيامته .

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم : قد أعذرنا إليكم ، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم ، وأرسلناه إليكم ، ليبين لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم ، كيلا تقولوا لم يأتنا من عندك رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة ، فقد جاءكم من عندي رسول ، يبشر من آمن بي وعمل بما أمرتُهُ ، وانتهى عما نهيته عنه ، ويُنذر من عصاني وخالف أمري ، وأنا القادر على كلّ شيء ، أقدر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني ، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي ، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي ، وتصديقكم بشيري ونذيري ، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أراده ولا يفوته شيء طلبه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

وقوله تعالى : { يا أهل الكتاب } خطاب لليهود والنصارى ، والرسول في قوله : { رسولنا } محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { على فترة من الرسل } ، أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما ، والفترة سكون بعد حركة في جرم ، ويستعار ذلك في المعاني ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة »{[4499]} ، وقال الشاعر :

وإني لتعروني لذكراك فترة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4500]}

معناه سكون بعد اضطراب ، واختلف الناس في قدرة الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ، فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاماً . وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة{[4501]} . وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود : ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء ، قاله ابن عباس ، وقوله تعالى : { أن تقولوا } مفعول من أجله ، المعنى حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة : { ما جاءنا من بشير ولا نذير } فقد جاءكم وقامت الحجة عليكم ، { والله على كل شيء قدير } فهو الهادي والمضل والمنعم والمعذب لا رب غيره .


[4499]:- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، ولفظه: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك)- =عن ابن عمرو- وقال في الجامع الصغير- حديث صحيح. والشرة بالكسرة: النشاط والحدة.
[4500]:-البيت لكثير عزة، والرواية المشهورة: وإني لتعروني لذكراك هزّة كما انتفض العصفور بلله القطر
[4501]:- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل} (قال: (هو محمد جاء بالحق الذي فتر به بين الحق والباطل، فيه بيان وموعظة، ونور وهدى، وعصمة لمن أخذ به، قال: وكانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر لنا أنه (كذا) كانت ستمائة سنة، أو ما شاء الله من ذلك) (الدر المنثور)، وذكر ابن كثير في تفسيره أن البخاري رواه عن سلمان الفارسي.