إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

{ يَا أَهْل الكتاب } تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوة { قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ } حال من رسولنا ، وإيثارُه على مبيِّناً لما مر فيما سبق ، أي يبين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد ، ومن جملتها ما بين في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء ، وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة ، وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبيانها ، أو يفعلُ لكم البيانَ ، ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين ، وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى : { كَثِيراً ممَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة ، يرده قوله عز وجل : { على فَتْرَةٍ منَ الرسل } فإن فتورَ الإرسال وانقطاعَ الوحي إنما يُحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه و( على فترة ) متعلق ( بجاءكم ) على الظرفية كما في قوله تعالى : { واتّبعوا مَا تَتْلُوا الشياطين على مُلْكِ سليمان } [ البقرة ، الآية 102 ] أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي ، ومزيدِ احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية ، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من ضمير يبين ، أو من ضمير لكم ، أي يبين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل ، أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم إلى البيان ، و( من الرسل ) متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لفترة ، أي كائنةٍ من الرسل مبتدَأةٍ من جهتهم . قوله تعالى : { أَن تَقُولُوا } تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين { مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة ، وانقطعت أخبارُها ، وزيادة ( مِنْ ) في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء ، وتنكير بشير ونذير للتقليل ، وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت ، بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد ، وقوله تعالى : { فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة وتُبيِّنُ أنه مُعلَّل به ، وتنوينُ ( بشيرٌ ونذيرٌ ) للتفخيم أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيّ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، حيث كان بينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعٌ وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستٌ وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلبيّ ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي ، وقيل : لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله عليه السلام وهو الأنسبُ بما في تنوين ( فترةٍ ) من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم إليه بسبب مضيِّ زمانٍ طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشّوا إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالى ، وفتحَ بابٍ إلى الرحمة ، وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَل إليهم من يُنبِّههم من غفلتهم .