البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (19)

{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم .

وقيل : المخاطب بأهل الكتاب هنا هم اليهود خاصة ، ويرجحه ما روي في سبب النزول : وأن معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب قالوا : يا معشر اليهود اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله .

ويبين لكم أي يوضح لكم ويظهر .

ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار ، أو يكون هو المذكور في الآية .

قبل هذا ، أي : يبين لكم ما كنتم تخفون ، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي : شرائع الدين .

أو حذف اقتصاراً واكتفاء بذكر التبيين مسنداً إلى الفاعل ، دون أن يقصد تعلقه بمفعول ، والمعنى : يكون منه التبيين والإيضاح .

ويبين لكم هنا وفي الآية قبل في موضع نصب على الحال .

وعلى فترة متعلق بجاءكم ، أو في موضع نصب على الحال ، والمعنى : على فتور وانقطاع من إرسال الرسل .

والفترة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام قال قتادة : خمسمائة سنة وستون .

وقال الضحاك : أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة .

وقيل : أربعمائة ونيف وستون .

وذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات له عن ابن عباس : أن كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أولها ثلاثة أنبياء .

وهو قوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } وهو شمعون وكان من الحواريين .

وقال الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال : بينهما أربعة أنبياء ، واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : « ضيعه قومه » .

وروي عن الكلبي أيضاً خمسمائة وأربعون .

وقال وهب : ستمائة سنة وعشرون .

وقيل : سبعمائة سنة .

وقال مقاتل : ستمائة سنة ، وروي هذا عن قتادة والضحاك .

وذكر ابن عطية أن هذا روي في الصحيح .

فإن كانا كما ذكر وجب أن لا يعدل عنه لسواه .

وهذه التواريخ نقلها المفسرون من كتب اليونان وغيرهم ممن لا يتحرّى النقل .

وذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والزمخشري عن الكلبي قالا : كان بين موسى وعيسى ألف سنة وسبعمائة سنة ، وألف نبيّ ، زاد ابن عباس من بني إسرائيل دون من أرسل من غيرهم ، ولم يكن بينهما فترة .

والمعنى : الامتنان عليهم بإرسال الرسل على حين انطمست آثار الوحي ، وهم أحوج ما يكونون إليه ليعدوه أعظم نعمة من الله وفتح باب إلى الرحمة ، ويلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غلفتهم .

وأن تقولوا : مفعول من أجله فقده البصريون : كراهة أو حذار أن تقولوا .

وقدره الفراء : لئلا تقولوا .

ويعني يوم القيامة على سبيل الاحتجاج .

{ فقد جاءكم بشير ونذير } قيل : وفي الكلام حذف أي : لا تعتدوا فقد جاءكم بشير ، أي لمن أطاع بالثواب ، ونذير لمن عصى بالعقاب .

وفي هذا ردّ على اليهود حيث قالوا : ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده .

{ والله على كل شيء قدير } هذا عامّ فقيل على كل شيء من الهداية والضلال .

وقيل : من البعثة وإمساكها .

والأولى العموم فيندرج فيه ما ذكروا .