قال الله تعالى مجيباً لعيسى عليه السلام : { إني منزلها عليكم } ، يعني : المائدة ، وقرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وعاصم ، ( منزّلها ) بالتشديد ، لأنها نزلت مرات ، والتفعيل يدل على التكرير مرة بعد أخرى ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، لقوله : { أنزل علينا } .
قوله تعالى : { فمن يكفر بعد منكم } ، أي : بعد نزول المائدة .
قوله تعالى : { فإني أعذبه عذابا } ، أي جنس عذاب .
قوله تعالى : { لا أعذبه أحداً من العالمين } ، يعني : عالمي زمانه ، فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة ، فمسخوا قردة وخنازير ، قال عبد الله ابن عمر : إن اشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون . واختلف العلماء في المائدة ، هل نزلت أم لا ؟ فقال مجاهد ، والحسن : لم تنزل ، لأن الله عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم ، فاستعفوا وقالوا : لا نريدها ، فلم تنزل ، وقوله : { إني منزلها عليكم } ، يعني : إن سألتم ، والصحيح الذي عليه الأكثرون : أنها نزلت ، لقوله تعالى : { إني منزلها عليكم } ، ولا خلاف في خبرها ، لتواتر الأخبار فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة ، والتابعين . واختلفوا في صفتها ، فروى خلاس بن عمرو ، عن عمار بن ياسر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنها نزلت خبزاً ولحماً ، وقيل لهم : إنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبئوا ، فما مضى يومهم حتى خانوا وخبأوا ، فمسخوا قردة وخنازير . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن عيسى عليه السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوماً ، ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه ، فصاموا فلما فرغوا قالوا : يا عيسى ، إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا ، وسألوا الله المائدة ، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة ، وسبعة أحوات ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس ، كما أكل أولهم . قال كعب الأحبار : نزلت مائدة منكوسة ، تطير بها الملائكة بين السماء والأرض . عليها كل الطعام إلا اللحم . وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم . قال قتادة : كان عليها ثمر من ثمار الجنة ، وقال عطية العوفي : نزلت من السماء سمكة ، فيها طعم كل شيء . وقال الكلبي : كان عليها خبز ورز ، وبقل . وقال وهب بن منبه : أنزل الله أقرصة من شعير ، وحيتاناً ، وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ويجيء آخرون فيأكلون ، حتى أكلوا جميعهم وفضل . وعن الكلبي ومقاتل : أنزل الله خبزاً وسمكاً ، وخمسة أرغفة ، فأكلوا ما شاء الله تعالى ، والناس ألف ونيف ، فلما رجعوا إلى قراهم ، ونشروا الحديث ، ضحك منهم من لم يشهد ، قالوا : ويحكم إنما سحر أعينكم ، فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرته ، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، ومسخوا خنازير ليس فيهم صبي ، ولا امرأة ، فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ، ولم يتوالدوا ، ولم يأكلوا ، ولم يشربوا ، وكذلك كل ممسوخ . وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشياً حيث كانت كالمن والسلوى لبني إسرائيل ، وقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه السلام صوفاً وبكى ، وقال : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } الآية . فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها ، وهم ينظرون إليها ، وهي تهوي خافضة ، حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى ، وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ، ولا تجعلها عقوبة ، واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ، ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه ، فقال عيسى عليه السلام : ليقم أحسنكم عملاً ، فيكشف عنها ، ويذكر اسم الله تعالى ، فقال شمعون الصفار رأس الحواريين : أنت أولى بذلك منا ، فقام عيسى عليه السلام فتوضأ ، وصلى صلاة طويلة ، وبكى كثيراً ، ثم كشف المنديل عنها ، وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا هو سمكة مشوية ، ليس عليها فلوسها ، ولا شوك عليها ، تسيل من الدسم ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة ؟ فقال : ليس شيء مم ترون من طعام الدنيا ، ولا من طعام الآخرة ، ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة ، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله ، كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى عليه السلام : معاذ الله أن آكل منها ، ولكن يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا لها أهل الفاقة والمرضى ، وأهل البرص والجذام ، والمقعدين والمبتلين ، فقال : كلوا من رزق الله ، ولكم الهناء ، ولغيركم البلاء ، فأكلوا ، وصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ، ومريض ، وزمن ، ومبتلى ، كلهم شبعان ، وإذا السمكة كهيئتها حين نزلت ، ثم طارت المائدة صعداً وهم ينظرون إليها حتى توارت بالحجاب ، فلم يأكل منها زمن ، ولا مريض ، ولا مبتلى ، إلا عوفي ، ولا فقير إلا استغنى ، وندم من لم يأكل منها ، فلبثت أربعين صباحاً تنزل ضحى ، فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء ، والصغار والكبار ، والرجال والنساء ، ولا تزال منصوبة يؤكل منها ، حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا وهم ينظرون إليها في ظلها ، حتى توارت عنهم ، وكانت تنزل غباً ، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً ، كناقة ثمود ، فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام : اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها ، وقالوا : أترون المائدة حقاً تنزل من السماء ؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام : إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، فقال عيسى عليه السلام : { أن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا ، باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ، ويأكلون القذرة في الحشوش ، فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام وبكوا ، فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت ، وجعلت تطيف بعيسى عليه السلام ، وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ويبكون ، ولا يقدرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا .
واستجاب الله دعاء عبده الصالح عيسى بن مريم ؛ ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه . . لقد طلبوا خارقة . واستجاب الله . على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذابا شديدا بالغا في شدته لا يعذبه أحدا من العالمين :
( قال الله : إني منزلها عليكم ، فمن يكفر بعد منكم ، فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) . .
فهذا هو الجد اللائق بجلال الله ؛ حتى لا يصبح طلب الخوارق تسلية ولهوا . وحتى لا يمضي الذين يكفرون بعد البرهان المفحم دون جزاء رادع !
وقد مضت سنة الله من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة . . فأما هنا فإن النص يحتمل أن يكون هذا العذاب في الدنيا ، أو أن يكون في الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّيَ أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ } . .
وهذا جواب من الله تعالى القوم فيما سألوا نبيهم عيسى مسألة ربهم من إنزاله مائدة عليهم ، فقال تعالى ذكره : إني منزلها عليكم أيها الحواريون فمطعكموها . " فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ " يقول : فمن يجحد بعد إنزالها عليكم وإطعامكموها منكم رسالتي إليه وينكر نبوّة نبي عيسى صلى الله عليه وسلم ويخالف طاعتي فيما أمرته ونهيته ، فإني أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من عالمي زمانه . ففعل القوم ، فجحدوا وكفروا بعد ما أنزلت عليهم فيما ذكر لنا ، فعذّبوا فيما بلغنا بأن مسخوا قردة وخنازير . كالذي :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ . . . . " الاية ، ذكر لنا أنهم حوّلوا خنازير .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عديّ ، ومحمد بن جعفر ، عن عوف ، عن أبي المغيرة القوّاس ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن أشدّ الناس عذابا ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن عوف ، قال : سمعت أبا المغيرة القوّاس يقول : قال عبد الله بن عمرو : إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة : مَنْ كفر من أصحاب المائدة ، والمنافقون ، وآل فرعون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : " فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ " بعد ما جاءته المائدة ، " فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العالَمِينَ " يقول : أعذّبه بعذاب لا أعذّبه أحدا من العالمين غير أهل المائدة .
فأجاب الله دعوة عيسى وقال { إني منزلها عليكم } ثم شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «إني مُنَزّلها » بفتح النون وشد الزاي ، وقرأ الباقون «منْزلها » بسكون النون ، والقراءتان متجهتان نزل وأنزل بمعنى واحد ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف ، «قال الله إني سأنزلها عليكم » ، واختلف الناس في نزول المائدة ، فقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد : إنهم لما سمعوا الشرط في تعذيب من كفر استعفوها فلم تنزل . قال مجاهد فهو مثل ضربه الله تعالى للناس لئلا يسألوا هذه الآيات ، وقال جمهور المفسرين : نزلت المائدة ، ثم اختلفت الروايات في كيفية ذلك ، فروى الشعبي عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : نزلت المائدة خبزاً وسمكاً ، وقال عطية : المائدة سمكة فيها طعم كل طعام ، قال ابن عباس نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أين ما نزلوا إذا شاؤوا ، وقاله وهب بن منبه ، قال إسحاق بن عبد الله : نزلت المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، قال : فسرق منها بعضهم فرفعت ، وقال عمار بن ياسر : سألوا عيسى عليه السلام مائدة يكون عليها طعام لا ينفذ ، فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا ، فإن فعلتم عذبتم قال فما مضى يوم حتى خبؤوا وخانوا فمسخوا قردة وخنازير ، وقال ابن عباس في المائدة أيضاً ، كان طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا ، وقال عمار بن ياسر : نزلت المائدة عليها ثمار من ثمار الجنة ، وقال ميسرة : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم .
قال القاضي أبو محمد : وكثر الناس في قصص هذه المائدة بما رأيت اختصاره لعدم سنده وقال قوم : لا يصح أن لا تنزل المائدة لأن الله تعالى أخبر أنه منزلها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير لازم لأن الخبر مقرون بشرط يتضمنه قوله { فمن يكفر بعد منكم } ، وسائغ ما قال الحسن{[4799]} ، أما أن الجمهور على أنها نزلت وكفرت جماعة منهم فمسخهم الله خنازير قاله قتادة وغيره ، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون ، ويذكر أن شمعون رأس الحواريين قال لعيسى حين رأى طعام المائدة ، يا روح الله أمن طعام الدنيا هو أم من طعام الآخرة ؟ قال عيسى عليه السلام : ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات ، هذا طعام ليس من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، بل هو بالقدرة الغالبة ، قال الله له كن فكان ، وروي أنه كان على المائدة بقول سوى الثوم والكراث والبصل ، وقيل كان عليها زيتون وتمر وحب رمان .