قوله : { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا } الآية [ 116 و117 ] .
قوله { تكون لنا } : حال بمعنى : كائنة {[18769]} . وقرأ الأعمش ( تكُن ) {[18770]} جعله {[18771]} للطلب {[18772]} .
وقرأ الجحدري {[18773]} : ( لأولانا {[18774]} وأُخرانا ) {[18775]} .
فالمعنى {[18776]} : نتخذ {[18777]} اليوم الذي تنزل فيه عيدا لنا ولمن بعدنا {[18778]} .
وقيل : معناه : نأكل {[18779]} منها جميعا ، قاله ابن عباس {[18780]} .
( و ) {[18781]} روي أن عيسى عليه السلام قام فلبس الشعر ، وكان يلبس الصوف بالنهار والشعر بالليل ، فلبس جبة من شعر ورداء من شعر ، ووضع يمينه على شماله ثم وضعهما {[18782]} على صدره ، ثم صف ( بين ) {[18783]} قدميه ، فألصق الكعب بالكعب ، وساوى الإبهام بالإبهام ، وطأطأ رٍأسه خاشعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فبكى حتى سالت الدموع على لحيته ، فجعلت تقطر على صدره ، فقال : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين {[18784]} غمامة فوقها ، وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها تهوي مُنْقَضّة {[18785]} وعيسى صلوات الله عليه يبكي ويقول : اللهم اجعلني لك من الشاكرين ، إلهي اجعلها رحمة ولا تَجعلها عذابا ، إلهي كم أسألك من العجائب فتعطيني ، إلهي أعوذ بك من أن تكون {[18786]} أنزلتها غضبا وزجرا {[18787]} ، اللهم اجعلها عافية {[18788]} وسلامة ولا تجعلها مثلة {[18789]} ولا فتنة {[18790]} حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون {[18791]} ريحا طيبا ، لم يجدوا {[18792]} مثلها {[18793]} قط ، وخر عيسى ساجدا والحواريون معه ، وبلغ اليهود ذلك ، فأقبلوا غما {[18794]} وكيدا ينظرون أمرا عجيبا ، وإذا منديلٌ قد عطى السفرة ، وجاء عيسى عليه السلام ، فجلس وقال : من كان أجرأنا وأوثَقَنا بنفسه ، وأحسَننا {[18795]} يقينا عند ربنا ، فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر {[18796]} ونأكل ونسمي {[18797]} اسم ربنا ونحمد إلهنا . فقال {[18798]} { الحواريون } {[18799]} : أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته / {[18800]} . فتوضاء {[18801]} عيسى وضوءا جيدا ، وصلى صلاة طويلة ، ودعا دعاء كثيرا ، وبكى بكاء طويلا {[18802]} ، ثم قام {[18803]} حتى جلس عند السفرة ثم قال : بسم الله خير الرازقين ، وكشف المنديل ، فإذا سمكة طرية مشوية ، ليس عليها قشورها ، وليس لها شوك ، وتسيل {[18804]} سيلا من الدسم ، قدم نُضِّد {[18805]} حولها البقول {[18806]} ما خلا الكراث {[18807]} ، وإذا خلٌّ عند رأسها ، وملح عند ذنبها ، وسبعة أرغفة {[18808]} ، على كل واحد منها زيت ، وعلى سائرها حَبَّ رمان {[18809]} وتمر {[18810]} ، فقال شمعون رأس الحواريين - : يا روح الله وكلمته ، أمن طعام الدنيا هذا ، ( أم من ) {[18811]} طعام الآخرة ؟ فقال عيسى صلى الله عليه : أو ما نُهيتم عن تفتيش المائدة ؟ ، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا . فقال ( شمعون ) {[18812]} : لا وإله إٍسرائيل ، ما أردت سوءاً ( يابن ) {[18813]} الصديقة . قال عيسى : نزلت وما عليها من السماء شيء ، وليس شيء مما ترون عليها من طعام {[18814]} الدنيا ولا من طعام الآخرة ، هي وما عليها : شيء ابتدعه الله بالقدرة الغالبة ، قال ( له الله ) {[18815]} : ( كن ) ، فكان ، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمددكم ويزدكم . قالوا : يا روح الله وكلمته ، لو أريتنا {[18816]} اليوم آية من هذه الآية . فقال عيسى : احْيَيْ {[18817]} بإذن الله ، فاضطربت {[18818]} السمكة حية {[18819]} ( طرية ) {[18820]} ، تدور عيناها في رأسها ، ولها وبيص {[18821]} تتلمط {[18822]} بفيها كما يتلمط {[18823]} الأسد ، وعاد عليها قشورها ، ففزع القوم ، فقال عيسى : ما لكم تسألون عن أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها ، ما أخوفني عليكم ( أن تُعذَّبوا ) {[18824]} ، يا سمكةُ عودي كما كنت بإذن الله ، فعادت السمكة مشوية كما كانت ، ليس عليها قشور بإذن الله . فقالوا : كن {[18825]} أنت – يا روح الله – الذي يأكل منها أول مرة ، ثم نأكل {[18826]} نحن . فقال عيسى : معاذ الله ، بل يأكل منها من طلبها وسألها . ففَرِق الحواريون {[18827]} من أن يكون نزولها سخطا ومثلة {[18828]} ، فلم يأكلوا منها ، فدعا عيسى أهل الفاقة والزَّمانة {[18829]} من {[18830]} العميان والمجذومين {[18831]} والبُرْص {[18832]} والمُقْعدين {[18833]} والمجانين وأصحاب الماء الأصفر ، فقال لهم : كلوا من رزق ربكم ، وادعوه يزدكم {[18834]} ، إنه ربكم واحمدوه يكن المُهْنَأ {[18835]} لكم ، والبلاء لغيركم ، واذكروا اسم الله وكلوا . ففعلوا و {[18836]}صدروا عن تلك السمكة والأرغفة وهم ألف وثلاث {[18837]} مائة بين {[18838]} رجل وامرأة ، ( و ) {[18839]} من بين فقير وجائع وزَمِن ، فصدروا كلهم شباعاً {[18840]} يَتَجَشَّؤون {[18841]} ، فنظر عيسى صلى الله عليه فإذا المائدة كهيئتها {[18842]} إذ نزلت {[18843]} من السماء ، فرفعت السفرة وهم ينظرون ، فاستغنى كل فقير أكل منها ، فلم يزل غنياً حتى مات ، وبرأ {[18844]} كل زمن أكل منها ، وقدم {[18845]} الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها . ثم كانت تنزل بعد ذلك ، فيأتي الناس إليها من كل مكان ، فزاحم بعضهم بعضا : الأغنياء والفقراء والرجال والنساء والأصحاء والمرضى {[18846]} ، فلما رأى ( ذلك عيسى ) {[18847]} جعلها نُوَباً {[18848]} بينهم ، فكانت تنزل {[18849]} غباً ، تنزل يوما ولا تنزل يوما ، كناقة صالح في الشرب {[18850]} ، فأقاموا بذلك أربعين صباحا تنزل عليهم ضحا ، فلا تزال موضوعة حتى إذا ( فاء الفيء ) {[18851]} طارت صاعدة ينظرون / إلى ظلها {[18852]} حتى تتوارى {[18853]} عنهم ، وأوحى الله عز وجل إلى عيسى ( أن ) {[18854]} اجْعل مائدتي ورزقي في اليتامي والزَّمنى دون الأغنياء من الناس . فلما فعل ذلك ، أعظمت ( ذلك ) {[18855]} الأغنياء ، فادعت {[18856]} القبيح حتى شككوا الناس وشكوا ، فوقعت الفتنة في قلوب الشاكين {[18857]} ، حتى قال قائلهم : يا مسيح ، وإن المائدة لحق ؟ ، ( و ) {[18858]} إنها لتنزل {[18859]} من عند الله ؟ فقال {[18860]} عيسى : ويلكم هلكتم ، ( فأبشروا ) {[18861]} ( بالعذاب ) {[18862]} إلا أن يرحم الله . فأوحى الله إلى عيسى : إني آخذ شرطي من الكذابين ، وقد اشترطت {[18863]} عليهم أن أعذب من كفر منهم بعد نزولها ( عذابا ) {[18864]} لا أعذبه أحدا من العالمين ، فقال عيسى : ( رب ) {[18865]} { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } {[18866]} ، فمسخ {[18867]} الله جل ذكره ثلاثة وثلاثين رجلا منهم خنازير من ليلتهم ، فأصبحوا يأكلون العذرة {[18868]} والخشوش {[18869]} ، وأًصبح الناس يطوفون بعيسى ( فزعا ورهبا من عقوبة الله ، وعيسى ) {[18870]} يبكي ، وأهلوهم يبكون معه {[18871]} ، وجاءت الخنازير تسعى إلى عيسى حين أبصرته ، فأطافوا به ينظرون إليه ، ويشمّون ريحه ، ويسجدون له ، وأعينهم تسيل دموعا لا يستطيعون الكلام ، فقام عيسى يناديهم بأسمائهم : ( يا فلان ) ، فيومئ إليه برأسه : ( نعم ) ، فيقول : قد كنت أحذركم عذاب الله ، وكأني كنت انظر : إليكم قد مُثّل بكم في غير صوركم {[18872]} .
قال وهب بن منبه : كانت مائدة {[18873]} يجلس {[18874]} عليها أربعة آلاف {[18875]} ، فقال رؤساء القوم لقوم من ضعفائهم : إن هؤلاء يُلطّخون علينا ثيابنا ، فلو بنينا ( لها بناء ) {[18876]} يرفعها . فبنوا لها دكانا ، فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء ، فلما خالفوا {[18877]} أمر الله رفعها عنهم {[18878]} .
قال ابن عباس : أكل منها آخرهم كما أكل أولهم ، فكانت لجميعهم {[18879]} عيدا {[18880]} .
وقوله : { وآية منك } : ( أي آية ) {[18881]} على قدرتك ، وعلى أني رسولك {[18882]} . ونزلت عليهم وعليها حوت وطعام ، فأكلوا ( منها ) {[18883]} ، ثم رفعت لأحداث أحدثوها {[18884]} .
( وقيل ) {[18885]} : كان في المائدة سمكة فيها من طعم {[18886]} كل طعام {[18887]} .
قال {[18888]} ابن عباس : نزلت المائدة مرتين {[18889]} وعنه : نزلت مرارا {[18890]} . وقال سلمان {[18891]} كذلك . وقيل : وكانت تنزل يوما وتغيب يوما {[18892]} .
قال الحسن : لما قال الله { إني منزلها {[18893]} عليكم } قالوا : لا حاجة لنا {[18894]} إليها فلم تنزل {[18895]} . قال الفراء : نزلت – فيما ذكر – يوم الأحد مرتين : غدوة وعشية ، فلذلك اتخذوه {[18896]} عيدا {[18897]} .
وعن ابن عباس أنه قال : كانوا يأكلون منها أينما {[18898]} نزلوا إذا شاءوا {[18899]} .
وقال وهب بن منبه : نزلت عليهم قرصة من شعير وأحوات {[18900]} . وقال مجاهد : هو طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا {[18901]} . وقال إسحاق بن عبد الله : نزلت على عيسى سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، يأكلون منها متى شاءوا . قال : فسرق بعضهم منها وقال : لعلها لا تنزل غدا ( فرفعت ) {[18902]} . وروي عن ابن عباس أنه قال : أُنزل على المائدة كل شيء غير اللحم {[18903]} . قال قتادة : لما صنعوا {[18904]} في المائدة ما صنعوا من الخيانة ، حُوِّلوا خنازير ، وكانوا أمروا ألا يخونوا ولا ( يخبئوا ولا يدخروا ) {[18905]} ، فخانوا وخبؤوا وادخروا {[18906]} .
( و ) {[18907]} روى عمار {[18908]}/ عن النبي عليه السلام أنه قال : نزلت المائدة {[18909]} خبزا ولحما ، وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد {[18910]} ، فخانوا وادخروا و( رفعوا لغد ) {[18911]} ، فمسخوا قردة {[18912]} وخنازير {[18913]} .
قال عمار {[18914]} بن ياسر {[18915]} : لم يتم يومهم حتى خانوا وادخروا ورفعوا {[18916]} .
وروي عن عمار {[18917]} بن ياسر {[18918]} أنه قال : كان عليها ثمر {[18919]} من ثمار الجنة {[18920]} .
قال مجاهد {[18921]} : إنما هو مثل ضربه الله لينتهوا عن مسألة النبي ، ولم ينزل الله عليهم شيئا {[18922]} . وقيل : لما قيل لهم : { فمن يكفر بعد منكم } الآية ، استعفوا {[18923]} ، فلم ينزل عليهم شيء {[18924]} ، قال ذلك الحسن {[18925]} . وقال مجاهد : أبوا {[18926]} ذلك حين عرض عليهم العذاب {[18927]} .
والذي عليه أكثر العلماء أن الله أنزلها عليهم ، لقوله { إني منزلها عليكم } ، ولا يجوز أن يخبر أنه ينزلها ، ثم لا ينزلها {[18928]} .
ومعنى { من العالمين } : من عالمي زمانكم {[18929]} .
وكان نزول المائدة يوم الأحد ، فلذلك اتخذوه عيدا {[18930]} .
والعذاب الذي أُوعِدوا به ، قيل : هو {[18931]} متأخر إلى الآخرة {[18932]} . وقيل إنهم عُجِّل لهم ذلك في الدنيا بأنهم {[18933]} مسخوا قردة وخنازير {[18934]} .
وروي أن المائدة لما نزلت عليهم فرقوا أن تكون عقوبة وسخطا ، فقالوا : يا روح الله ، كن أنت أول من يأكل منها ، ثم نأكل {[18935]} نحن . فقال عيسى : معاذ الله ، ولكن يأكل منها الذين طلبوها . فلم يأكلوا منها خوفا أن تكون سخطا عليهم ، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والحاجة والزمنى والعمي {[18936]} والبرص ، وكل مَن به داء ، فقال {[18937]} لهم : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم ، واذكروا اسم الله . فأكلوا حتى شبعوا وهم ألف وثلاث {[18938]} مائة ، قاله سليمان {[18939]} .
وقال مقاتل : كانوا خمسين ألفا ، وأفاقوا {[18940]} من كل دائهم .