التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (115)

ثم ختم - سبحانه - حديثه عن هذه المائدة وما جرى بشأنها بين عيسى والحورايين من أقوال فقال - تعالى - : { قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } .

وقوله : { منزلها } ورد فيه قراءاتان متواتران .

إحداهما : منزلها - بتشديد الزاي - من التنزيل وهي تفيد التكثير أو التدريج كما تنبئ عن ذلك صيغة التفعيل . وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وعاصم ونافع .

وقرأ الباقون { منزلها } بكسر الزاي - من الإِنزال المفيد لنزولها دفعة واحدة .

والمعنى : قال الله - تعالى - إني منزل عليكم المائدة من السماء إجابة لدعاء رسولي عيسى - عليه السلام - { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } أي فمن يكفر بعد نزولها منكم أيها الطالبون لها { فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } أي : فإن الله - تعالى - يعذب هذا الكافر بآياته عذاباً لا يعذب مثله أحداً من عالمي زمانه أو من العالمين جميعاً .

وقد أكد - سبحانه - عذابه للكافر بآيات الله بعد ظهورها وقيام الأدلة على صحتها بمؤكدات منها : حرف إن في قوله { فإني أُعَذِّبُهُ } ومنها : المصدر في قوله { فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً } إذ المفعول المطلق هنا لتأكيد وقوع الفعل وهو العذاب .

ومنها : وصف هذا العذاب بأنه لا يعذب مثله لأحد من العالمين .

وهذه المؤكدات لوقوع العذاب على الكافر بآيات الله بعد وضوحها من أسبابه : أن الكفر بعد إجابة ما طلبوه ، وبعد رؤيته ومشاهدته ؛ وبعد قيام الأدلة على وحدانية الله وكمال قدرته ، وبعد ظهور البراهين الدالة على صدق رسوله .

أقول : الكفر بعد كل ذلك يكون سببه الجحود والعناد والحسد ، والجاحد والمعاند والحاسد يستحقون أشد العذاب ، وأعظم العقاب .

هذا ، وهنا مسألتان تتعلقان بهذه الآيات الكريم’ ، نرى من الخير أن نتحدث عنهما بشيء من التفصيل .

المسألة الأولى : آراء العلماء في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم .

المسألة الثانية : آراء العلماء في نزول المائدة وعدم نزولها .

وللإجابة على المسألة الأولى نقول : لعل منشأ الخلاف في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم مرجعه إلى قولهم لعيسى - كما حكى القرآن عنهم - { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } ؟ فإن هذا القول يسشعر بشكهم في قدرة الله على إنزال هذه المائدة .

وقد ذهب فريق من العلماء - وعلى رأسهم الزمخشري - إلى عدم إيمانهم ، وجعلوا الظرف في قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون } متعلقا بقوله قبل ذلك { قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } .

أي : أنهم قالوا لعيسى آمنا واشهد بأننا مسلمون ، في الوقت الذي قالوا له فيه { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } فكأنهم ادعوا الإِيمان والاسلام ادعاء بدون إيقان وإذعان ، وإلا فلو كانوا صادقين في دعواهم لما قالوا لعيسى بأسلوب الاستفهام : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قالوا : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بعد إيمنهم وإخلاصهم ؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى ادعاءهم لهما ، ثم اتبعه بقوله : ( وَإِذْ قَالُواْ ) فإذن دعواهم كانت باطلة ، وانهم كانوا شاكين ، وقوله : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم . وكذلك قول عيسى لهم معناه : اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ولا تحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة .

وذهب جمهور العلماء إلى أن الحواريين عندما قالوا لعيسى { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } كانوا مؤمنين واستدلوا على ذلك بأدلة منها :

1 - أن الظرف في قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون } ليس متعلقا بقوله : { قالوا آمَنَّا } وإنما هو منصوب بفعل مضمر تقديره اذكر ، وهذا ما رجحه العلامة أبو السعود في تفسيره فقد قال :

قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون } كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام - وبين قومه منقطع عما قبله ، كما ينبئ عنه الإِظهار في موضع الاضمار وإذ منصوب بمضمر .

وقي : هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الإيمان والإخلاص لم يكن عن تحقيق وإيقان ولا يساعده النظم الكريم .

2 - أن قول الحواريين لعيسى { لْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } لا يسحب عنهم الإِيمان ، وقد خرج العلماء قولهم هذا بتخريجات منها .

( أ ) أن قولهم لم يكن من باب الشك في قدرة الله ، وإنما هو من باب زيادة الاطمئنان عن طريق ضم علم المشاهدة إلى العلم النظري بدليل أنهم قالوا بعد ذلك { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } .

وشبيه بهذا قول إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } قال القرطبي ما ملخصه : " الحواريون خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم ، وقد كانوا عالمين باستطاعة الله لذلك ولغيره علم دلالة وخبرونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ، كما قال إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } وقد كان إبراهمي علم ذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة ؛ لأن علم النظر واخلبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة ، لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } كما قال إبراهيم { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ( ب ) أن السؤال إنما هو الفعل لا عن القدرة عليه ، وقد بسط الآلوسي هذا المعنى فقال : إن معنى { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل يفعل ربك كما تقول للقادر على القيام : هل تستطيع أن تقوم معي مبالغة في التقاضي .

والتعبير عن الفعل بالاستطاعة ، من باب التعبير عن المسبب بالسبب ، إذ هي - أي الاستطاعة - من أسباب الإيجاد .

( ج ) أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة - كما سبق أن أشرنا - ويشهد لذلك قول الفخر الرازي : قال السدي ؛ قوله { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } أي : هل يطيعك ربك إن سألته . وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة .

والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح للأدلة التي ذكرناها ، ولأن الله - تعالى - قد ذكر قبل هذه الآية أنه قد امتن عليهم بإلهامهم الإِيمان فقال :

{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين لكشف الله عن حقيقتهم ، فقد جرت سنته - سبحانه - مع أنبيائه أن يظهر لهم نفاق المنافقين حتى يحذرهم .

ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين ، لما أمر الله أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بهم في إخلاصهم ورسوخ يقيتهم قال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله } وقال - تعالى - { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } فهاتان الآيتان صريحتان في مدح الحواريين وفي أنهم قوم التفوا حول عيسى - عليه السلام - وناصروه مناصرة صادقة ، وآمنوا به إيمانا سليما من الشك والتردد .

وأما المسألة الثانية : وهي آراء العلماء في نزول المائدة : فالجمهور على أنها نزلت .

وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه : والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال :

إن الله أنزل المائدة . . لأن الله لا يخلف وعده ، ولا يقع في خبره الخلف وقد قال - تعالى - مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى حين سأله ما سأله من ذلك { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } وغير جائز أن يقول الله إني منزلهاه عليكم ثم لا ينزلها ، لأن ذلك منه - تعالى - خبر ، ولا يكون منه خلاف ما يخبر .

وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير فقال : وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم .

ومن الآثار ما خرجه الترمذي عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد : فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخهم قردة وخنازير " .

قال الترمذي : وقد روى عن عمار من طريق موقوفا وهو أصح .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم قالوا له ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء . قال : فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها . عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة . فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .

والذي يراجع بعض كتب التفسير يرى كلاما كثيراً عما كان على المائدة من أصناف الطعام ، وعن كيفية نزولها ومكانه ، وعن كيفية استقبالها وكشف غطائها ، والأكل منها والباقي عليها بعد الأكل . وهذا الكلام الكثير رأينا من الخير أن نضرب عنه صفحا ، لضعف أسانيده ، ولأنه لا يخلو عن غرابة ونكارة - كما قال ابن كثير - فقد ذكر - رحمه الله - أثرا طويلا في هذا المعنى ثم قال في نهايته : هذا أثر غريب جدا قطعه ابن حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم .

ويعجبني في هذا المقام قول ابن جرير : وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة ، فأن يقال : كان عليها مأكول . وجائز أن يكون هذا المأكول سمكا وخبزاً ، وجائز أن يكون من ثمر الجنة ، وغير نافع العلم به ، ولا ضار الجهل به ، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل .

ويرى الحسن ومجاخد أن المائدة لم تنزل ، فقد روى ابن جرير - بسنده - عن قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل .

وروى منصور بن زادان عن الحسن أيضاً أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل .

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء .

أي : مثل ضربه الله للناس نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه .

قال الحافظ ابن كثير : وهذه أساندي صحيحة إلى مجاهد والحسن وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى . ولس في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله . وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً ولا أقل من الآحاد .

وقد علق بعض العلماء على كلام ابن كثير هذا فقال : ولنا أن نقول : إن هذا الاستدلال إن كان يعني عدم نزولها فقط ، فقد يكون له شيء من الوجاهة وإن كان يعني أنها لا تنزل ولم يسأل ، فهو محل نظير كبير ، لأن السؤال مالم ينته بإجابة كونية فعلية تبرز بها المائدة للناس ويرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم فلا يعد بذلك مما تتوافر الدواعي على نقله ، لا سيما وعيسى في بيئة محصورة : جماعة سألوا وأجيبوا ، وانتهى الأمر برجوعهم عما سألوا فعدم تواتر سؤالها في كتب النصارى أو عدم وجوده فيها لا يستغرب كما يستغرب الأمر فيما لو نزلت المائدة فعلا ورآها الناس فعلا وأكلوا منها . وتذوقوا طعامها ، ولم يذكر عن ذلك شيء .

وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ابتداء وانفرد بها عن سائر الكتب ، ولا يلزم أن يكون كل ما قصه الله - تعالى - في القرآن قد قصه في غيره من الكتب المتقدمة ، ولا أن أصحاب الأناجيل علموا بكل شيء حتى بمثل هذه المحاورة الخاصة التي لم تنته بحادث كوني حتى يكون عدم ذكرهم إياها في أنا جيلهم - التي وضعوها - دليلا على عدم سؤالها . فقصة السؤال إذن لم ترد فيما عند النصارى ولكنها وردت فيما عند المسلمين .

ومن الجائز أن تكون مما ورد في الأناجيل ، وأن تكون مما أخفاه أهل الكتاب أو ضاع منهم علمه بسبب ما . والقرآن كما وصف بنفسه مهيمن على كتبهم التي وصفها بأنهم حرفوها وأنهم كانوا يخفون كثيراً منها ، وأنه يبين لهم كثقيرا مما كانوا يخفون .

هذا ومما سبق يتبين لنا أن العلماء متفقون على أن الحواريين قد سألوا عيسى أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ، وأن عيسى قد دعا ربه فعلا أن ينزلها ، كما جاء في الآية الكريمة .

ومحل الخلاف بينهم أنزلت أم لا ؟ فالجمهور يرون أنها نزلت لأن الله وعد بذلك في قوله { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } والحسن ومجاهد يريان أنها لم تنزل ، لأن الوعد بنزلوها مقيد بما رتب علي من وقوع العذاب بهم إذا لم يؤمنوا بعد نزولها ، وأن القوم بعد أن سمعوا هذا الشرط قالوا : لا حاجة لنا فيها . فلم تنزل . ويبدو لنا أن رأى الجمهور أقرب إلى الصواب ، لأن ظاهر الآيات يؤيده ، وكذلك الآثار التي وردت في ذلك .