الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (115)

{ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } يعني المائدة .

وقرأ أهل الشام والمدينة ، وقتادة وعاصم : منزلها في التشديد لأنها نزلت وقرأت والتفعل يدل في الكثير مرة بعد مرة لقوله ونزلناه تنزيلاً .

وقرأ الباقون بالتخفيف لقوله : أنزل علينا { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } أي بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير .

وقال عبد اللّه بن عمران : أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون .

واختلف العلماء في المائدة هل نزلت عليهم أم لا ؟ فقال مجاهد : ما نزلت المائدة وهذا مثل ضربه اللّه .

وقال الحسن : واللّه ما نزلت مائدة إن القوم لما سمعوا الشرط وقيل لهم { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } الآية ، استغفروا وقالوا : لا نريدها ولا حاجة فيها فلم ينزل ، والصواب أنها نزلت لقوله : { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } ولا يقع في خبره الخلف ، وتواترت . الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وغيرهم من علماء الدين في نزولها ، قال كعب : نزلت يوم الأحد ، لذلك اتخذه النصارى عيداً .

واختلفوا في صفتها وكيف نزولها وما عليها .

فروى قتادة عن جلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : " نزلت المائدة خبزاً ولحماً وذلك أنهم سألوا عيسى طعاماً يأكلون منه لا ينفد ، قال ، فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا أو تخبوا أو ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتكم ، قال : فما مضى يومهم حتى خبوا ورفعوا وخانوا " .

وقال إسحاق بن عبد اللّه : إن بعضهم سرق منها ، وقال لعلها لا تنزل أبداً فرفعت ومسخوا قردة وخنازير .

وقال ابن عباس : إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل : صوموا ثلاثين يوماً ثم سلوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوماً فلما فرغوا قالوا : يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاماً ولأصبحنا من وجعنا ، فادع لنا اللّه أن ينزل علينا مائدة من السماء فنزل الملائكة بمائدة يحملونها ، عليه سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم وأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم .

وروى عطاء بن سائب عن باذان وميسرة قالا : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلاّ اللحم .

وقال ابن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلاّ الخبز واللحم .

قال عطاء : نزل عليها كل شيء إلاّ السمك واللحم .

قال العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء .

وقال عمار وقتادة : كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة .

وقال وهب بن منبه : أنزل اللّه أقرصة من شعير وحيتاناً ، فقيل لوهب : ما كان ذلك يغني عنهم ، قال : لا شيء ولكن اللّه أضعف لهم البركة ، فكان لهم يأكلون ثم يخرجون فيجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوها جميعهم وفضل .

وقال الكلبي ومقاتل : استجاب اللّه لعيسى ( عليه السلام ) فقال إني منزلها عليكم كما سألتم فمن أكل من ذلك الطعام ثم لا يؤمن جعلته مثلاً ، ولعنة لمن بعدهم ، قالوا : قد رضينا فدعا شمعون وكان أفضل الحواريين ، فقال : هل لكم طعام ؟ قال : نعم معي سمكتان صغيرتان وستة أرغفة ، فقال : عليّ بها فقطعهن عيسى قطعاً صغاراً ، ثم قال : اقعدوا في روضة فترفقوا رفاقاً كل رفقة عشرة ، ثم قام عيسى ودعا اللّه فاستجاب اللّه له ونزل فيها البركة فصار خبزاً صحاحاً وسمكاً صحاحاً ، ثم قام عيسى فجعل يلقي في كل رفقة ما عملت أصابعه ثم قال : كلوا بسم اللّه فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم فأكلوا ما شاء اللّه وفضل خمس الذيل ، والناس خمسة آلاف ونيف .

وقال الناس جميعاً : نشهد إنك عبده ورسوله ، ثم سألوا مرة أخرى فدعا عيسى ( عليه السلام ) فأنزل اللّه خبزاً وسمكاً وخمسة أرغفة وسمكتين فصنع بها ما صنع في المرة الأولى فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدوا وقالوا لهم : ويحكم إنما سحر أعينكم . فمن أراد به الخير بثَّته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا إمرأة فمكثوا بذلك أيام ثم هلكوا ولم تبق ، ولم يأكلوا ولم يشربوا فكذلك كل ممسوخ .

وقال كعب الأحبار : نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلاّ اللحم .

وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشية حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل .

فقال يمان بن رئاب : كانوا يأكلون منها ما شاءوا .

وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي إنه قال : واللّه ما اتبع عيسى ( عليه السلام ) شيئاً من المآذي قط ولا انتهر شيئاً ولا قهقه ضحكاً ولا ذبّ ذباباً عن وجهه ولا أخلف على أنفه من أي شيء قط ولا عتب إليه . ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفاً وبكى ، وقال : اللهم أنزل علينا مائدة من السماء الآية وارزقنا عليها طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين فنزل اللّه سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها [ وهي تجيء مرتفعة ] حتى سقطت من أيديهم فبكى عيسى فقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة .

واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه ، فقال عيسى : أيكم أحسنكم عملاً فيكشف عنها ويذكر اسم اللّه ويأكل منها ؟ فقال شمعون رئيس الحواريين : أنت بذلك أولى منا ، فقام عيسى وتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيراً ثم كشف المنديل عنها وقال : بسم اللّه خير الرازقين ، فإذا هو بسمكة مشوية ليس عليها ضلوعها ولا شوك ، فيها سيل من الدسم ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، ووجوها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد .

فقال شمعون : يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة ؟

فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، ولكنه شيء فعله اللّه بالقدرة العالية ، فكلوا مما سألتم مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منكم في الآخرة .