ثم أرى موسى آية على قدرته ، فقال { وألق عصاك فلما رآها تهتز } تتحرك ، { كأنها جان } وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها ، { ولى مدبراً } هرب من الخوف ، { ولم يعقب } ولم يرجع ، يقال : عقب فلان إذا رجع ، وكل راجع معقب . وقال قتادة : ولم يلتفت ، فقال الله عز وجل : { يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون } يريد إذا آمنتهم لا يخافون ، أما الخوف الذي هو شرط الإيمان فلا يفارقهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أخشاكم لله " .
( وألق عصاك ) . . باختصار هنا ، حيث لا يذكر ذلك النجاء الطويل الذي في سورة طه . لأن العبرة المطلوبة هي عبرة النداء والتكليف .
( فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ) . .
فقد ألقى عصاه كما أمر ؛ فإذا هي تدب وتسعى ، وتتحرك حركة سريعة كحركة ذلك النوع الصغير السريع من الحيات " الجان " . وأدركت موسى - عليه السلام - طبيعته الانفعالية ، وأخذته هزة المفاجأة التي لم تخطر له ببال ، وجرى بعيدا عن الحية دون أن يفكر في الرجوع ! وهي حركة تبدو فيها دهشة المفاجأة العنيفة في مثل تلك الطبيعة الشديدة الانفعال .
ثم نودي موسى بالنداء العلوي المطمئن ؛ وأعلن له عن طبيعة التكليف الذي سيلقاه :
يا موسى لاتخف إني لا يخاف لدي المرسلون . .
لا تخف . فأنت مكلف بالرسالة . والرسل لا يخافون في حضرة ربهم وهم يتلقون التكليف .
وقوله : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآهَا تَهْتَزّ في الكلام محذوف تُرك ذكره ، استغناء بما ذُكِر عما حُذف ، وهو : فألقاها فصارت حية تهتز فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ يقول : كأنها حية عظيمة ، والجانّ : جنس من الحيات معروف .
وقال ابن جُرَيْج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ قال : حين تحوّلت حية تسعى ، وهذا الجنس من الحيات عني الراجز بقوله :
يَرْفَعْنَ باللّيْلِ إذَا ما أسْدَفا *** أعْناقَ جِنّانٍ وَهاما رُجّفَا
*** وَعَنَقا بَعْدَ الرّسِيم خَيْطَفَا ***
وقوله : وَلّى مُدْبرا يقول تعالى ذكره : ولى موسى هاربا خوفا منها ولَمْ يُعَقّبْ يقول : ولم يرجع من قولهم : عقب فلان : إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قتادة ، قال : لم يلتفت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع يَا مُوسَى قال : لما ألقى العصا صارت حية ، فرعب منها وجزع ، فقال الله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : فلم يرعو لذلك ، قال : فقال الله له : أقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ قال : فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال : سَنُعِيدُها سِيرَتها الأُولى قال : فالتفت فإذا هي عصا كما كانت ، فرجع فأخذها ، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها .
وقوله : يا موسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَديّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ يقول تعالى ذكره : فناداه ربه : يا موسى لا تخف من هذه الحية ، إني لا يخاف لديّ المرسلون : يقول : إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة ، إلا من ظلم منهم ، فعمل بغير الذي أُذن له في العمل به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قوله يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله الفزاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : قوله : يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس ، قال : وقال الحسن : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب .
واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع ، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ بقوله : فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله ، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله : ما قام إلا زيد ، فزيد مثبت له القيام ، لأنه مستثنى مما قبل إلا ، وما قبل إلا منفيّ عنه القيام ، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم : قام القوم إلا زيدا فزيد منفي عنه القيام ومعناه : إن زيدا لم يقم ، والقوم مثبت لهم القيام ، ( إلا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة ، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين . فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت إلا في هذا الموضع ، لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام ، كمثل قول العرب : ما أشتكي إلا خيرا فلم يجعل قوله : إلا خيرا على الشكوى ، ولكنه علم أنه إذا قال : ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا ، كأنه قال : ما أذكر إلا خيرا .
وقال بعض نحويي الكوفة : يقول القائل : كيف صير خائفا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ، وهو مغفور له ؟ فأقول لك : في هذه الاَية وجهان : أحدهما أن يقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملاً صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه . والاَخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ، لأن المعنى : لا يخاف لديّ المرسلون ، إنما الخوف على من سواهم ، ثم استثنى فقال : إلا مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا يقول : كان مشركا ، فتاب من الشرك ، وعمل حسنا ، فذلك مغفور له ، وليس يخاف . قال : وقد قال بعض النحويين : إن إلا في اللغة بمنزلة الواو ، وإنما معنى هذه الاَية : لا يخاف لديّ المرسلون ، ولا من ظلم ثم بدّل حسنا ، قال : وجعلوا مثله كقول الله : لِئَلاّ يكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا ، لأني لا أجيز : قام الناس إلا عبد الله ، وعبد الله قائم إنما معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا . وقد أراه جائزا أن يقول : لي عليك ألف سوى ألف آخر فإن وُضِعت إلا في هذا الموضع صلحت ، وكانت إلا في تأويل ما قالوا ، فأما مجرّدة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ، ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو ، وليست بها قوله : خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ هو في المعنى . والذي شاء ربك من الزيادة ، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو ، ولكن بمنزلة سوى فإذا كانت «سوى » في موضع «إلا » صلحت بمعنى الواو ، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا : أي وهذا عندي ، كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا أيضا عندي ، وهو في سوى أبعد منه في إلا ، لأنك تقول : عندي سوى هذا ، ولا تقول : عندي إلا هذا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُم بَدّلَ عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما ، وهو أن قوله : إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم فأتى ذنبا ، فإنه خائف لديه من عقوبته . وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك ، وهو قوله قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس .
فإن قال قائل : فما وجه قيله إن كان قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناءً صحيحا ، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة ؟ قيل : إن قوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ كلام آخر بعد الأوّل ، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم ، ومن لم يظلم عند قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل ، وسائر الناس غيرهم . وقيل : فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم .
فإن قال قائل : فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لم يكن عطفا على قوله : ظَلَمَ ؟ قيل : على متروك استغني بدلالة قوله ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ عليه عن إظهاره ، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره ، وهو : فمن ظلم من الخلق . وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية ، فقد قالوا على مذهب العربية ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل . وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل ، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل .
وقوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ يقول تعالى ذكره : فمن أتى ظلما من خلق الله ، وركب مأثما ، ثم بدل حسنا ، يقول : ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم ، فإني غَفُورٌ يقول : فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه ، وترك عقوبته عليه رَحِيمٌ به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ، ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ ثم تاب من بعد إساءته فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
{ وألق عصاك } عطف على { بورك } أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك ، ويدل عليه قوله { وأن ألق عصاك } بعد قوله { أن يا موسى إني أنا الله } بتكرير أن . { فلما رآها تهتز } تتحرك باضطراب . { كأنها جان } حية خفيفة سريعة ، وقرىء " جأن " على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين . { ولى مدبرا ولم يعقب } ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار ، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله : { يا موسى لا تخف } أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله : { إني لا يخاف لدي المرسلون } أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى ، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه .