وقوله : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآهَا تَهْتَزّ في الكلام محذوف تُرك ذكره ، استغناء بما ذُكِر عما حُذف ، وهو : فألقاها فصارت حية تهتز فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ يقول : كأنها حية عظيمة ، والجانّ : جنس من الحيات معروف .
وقال ابن جُرَيْج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ قال : حين تحوّلت حية تسعى ، وهذا الجنس من الحيات عني الراجز بقوله :
يَرْفَعْنَ باللّيْلِ إذَا ما أسْدَفا *** أعْناقَ جِنّانٍ وَهاما رُجّفَا
*** وَعَنَقا بَعْدَ الرّسِيم خَيْطَفَا ***
وقوله : وَلّى مُدْبرا يقول تعالى ذكره : ولى موسى هاربا خوفا منها ولَمْ يُعَقّبْ يقول : ولم يرجع من قولهم : عقب فلان : إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قتادة ، قال : لم يلتفت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع يَا مُوسَى قال : لما ألقى العصا صارت حية ، فرعب منها وجزع ، فقال الله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : فلم يرعو لذلك ، قال : فقال الله له : أقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ قال : فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال : سَنُعِيدُها سِيرَتها الأُولى قال : فالتفت فإذا هي عصا كما كانت ، فرجع فأخذها ، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها .
وقوله : يا موسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَديّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ يقول تعالى ذكره : فناداه ربه : يا موسى لا تخف من هذه الحية ، إني لا يخاف لديّ المرسلون : يقول : إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة ، إلا من ظلم منهم ، فعمل بغير الذي أُذن له في العمل به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قوله يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله الفزاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : قوله : يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس ، قال : وقال الحسن : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب .
واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع ، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ بقوله : فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله ، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله : ما قام إلا زيد ، فزيد مثبت له القيام ، لأنه مستثنى مما قبل إلا ، وما قبل إلا منفيّ عنه القيام ، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم : قام القوم إلا زيدا فزيد منفي عنه القيام ومعناه : إن زيدا لم يقم ، والقوم مثبت لهم القيام ، ( إلا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة ، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين . فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت إلا في هذا الموضع ، لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام ، كمثل قول العرب : ما أشتكي إلا خيرا فلم يجعل قوله : إلا خيرا على الشكوى ، ولكنه علم أنه إذا قال : ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا ، كأنه قال : ما أذكر إلا خيرا .
وقال بعض نحويي الكوفة : يقول القائل : كيف صير خائفا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ، وهو مغفور له ؟ فأقول لك : في هذه الاَية وجهان : أحدهما أن يقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملاً صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه . والاَخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ، لأن المعنى : لا يخاف لديّ المرسلون ، إنما الخوف على من سواهم ، ثم استثنى فقال : إلا مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا يقول : كان مشركا ، فتاب من الشرك ، وعمل حسنا ، فذلك مغفور له ، وليس يخاف . قال : وقد قال بعض النحويين : إن إلا في اللغة بمنزلة الواو ، وإنما معنى هذه الاَية : لا يخاف لديّ المرسلون ، ولا من ظلم ثم بدّل حسنا ، قال : وجعلوا مثله كقول الله : لِئَلاّ يكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا ، لأني لا أجيز : قام الناس إلا عبد الله ، وعبد الله قائم إنما معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا . وقد أراه جائزا أن يقول : لي عليك ألف سوى ألف آخر فإن وُضِعت إلا في هذا الموضع صلحت ، وكانت إلا في تأويل ما قالوا ، فأما مجرّدة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ، ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو ، وليست بها قوله : خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ هو في المعنى . والذي شاء ربك من الزيادة ، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو ، ولكن بمنزلة سوى فإذا كانت «سوى » في موضع «إلا » صلحت بمعنى الواو ، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا : أي وهذا عندي ، كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا أيضا عندي ، وهو في سوى أبعد منه في إلا ، لأنك تقول : عندي سوى هذا ، ولا تقول : عندي إلا هذا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُم بَدّلَ عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما ، وهو أن قوله : إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم فأتى ذنبا ، فإنه خائف لديه من عقوبته . وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك ، وهو قوله قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس .
فإن قال قائل : فما وجه قيله إن كان قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناءً صحيحا ، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة ؟ قيل : إن قوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ كلام آخر بعد الأوّل ، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم ، ومن لم يظلم عند قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل ، وسائر الناس غيرهم . وقيل : فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم .
فإن قال قائل : فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لم يكن عطفا على قوله : ظَلَمَ ؟ قيل : على متروك استغني بدلالة قوله ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ عليه عن إظهاره ، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره ، وهو : فمن ظلم من الخلق . وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية ، فقد قالوا على مذهب العربية ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل . وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل ، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل .
وقوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ يقول تعالى ذكره : فمن أتى ظلما من خلق الله ، وركب مأثما ، ثم بدل حسنا ، يقول : ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم ، فإني غَفُورٌ يقول : فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه ، وترك عقوبته عليه رَحِيمٌ به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ، ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ ثم تاب من بعد إساءته فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.