قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ نوح } ، أي : اقرأ يا محمد على أهل مكة خبر نوح { إذ قال لقومه } ، وهم ولد قابيل ، { يا قوم إن كان كبر عليكم } ، عظم وثقل عليكم ، { مقامي } طول مكثي فيكم { وتذكيري } ، ووعظي إياكم { بآيات الله } ، بحججه وبيناته ، فعزمتم على قتلي وطردي { فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم } ، أي : أحكموا أمركم واعزموا عليه ، { وشركاءكم } ، أي : وادعوا شركاءكم ، أي : آلهتكم ، فاستعينوا بها لتجتمع معكم . وقال الزجاج : معناه : فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، فلما ترك مع انتصب . وقرأ يعقوب : " وشركاؤكم " رفع ، أي : فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤهم .
قوله تعالى : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } ، أي : خفيا مبهما ، مكن قولهم : غم الهلال على الناس ، أي : أشكل عليهم ، { ثم اقضوا إلي } ، أي : أمضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان إذا مات ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه . وقيل : معناه : توجهوا إلي بالقتل والمكروه . وقيل فاقضوا ما أنتم قاضون ، وهذا مثل قول السحرة لفرعون : { فاقض ما أنت قاض } [ طه-72 ] ، أي : اعمل ما أنت عامل .
قوله تعالى : { ولا تنظرون } ، ولا تؤخرون وهذا على طريق التعجيز ، أخبر الله عن نوح أنه كان واثقا بنصر الله تعالى غير خائف من كيد قومه ، علما منه بأنهم وآلهتهم ليس إليهم نفع ولا ضر إلا أن يشاء الله .
( واتل عليهم نبأ نوح ، إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر ، إن أجري إلا على اللّه ، وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك ، وجعلناهم خلائف ، وأغرقنا الذين كذبوا بآيانتا ، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) . .
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح ، هي الحلقة الأخيرة : حلقة التحدي الأخير ، بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل . ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ، ولا التفصيلات في تلك الحلقة ، لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده ، ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة ، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة . لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة . ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة ، لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع
( واتل عليهم نبأ نوح ، إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم . ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) . .
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق ، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم ؛ وتذكيري لكم بآيات اللّه . فأنتم وما تريدون . وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه :
عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء .
( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) . .
وتدبروا مصادر أمركم وموارده ، وخذوا أهبتكم متضامنين :
ثم ولا يكن أمركم عليكم غمة . .
بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم ، وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض ، ولا تردد فيه ولا رجعة
فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم ، بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه
ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد ، فكل استعدادي ، هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه .
إنه التحدي الصريح المثير ، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته ، واثق كل الوثوق من عدته ، حتى ليغري خصومه بنفسه ، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه ! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة ? وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً ?
كان معه الإيمان . . القوة التي تتصاغر أمامها القوى ، وتتضاءل أمامها الكثرة ، ويعجز أمامها التدبير . وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان !
إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه . فليس هذا التحدي غروراً ، وليس كذلك تهوراً ، وليس انتحاراً . إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه . . وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض . وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أياً كان !
ولن يضرهم الطاغوت إلاّ أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه ، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه . ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف . ثم تعود الكرة للمؤمنين . ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكّلْتُ فَأَجْمِعُوَاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوَاْ إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتل على هؤلاء المشركين الذي قالوا : اتخذ الله ولدا من قومك نَبَأَ نُوحٍ يقول : خبر نوح ، إذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَقامي يقول : إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم ، وَتَذْكِيرِي بآياتِ اللّهِ يقول : ووعظي إياكم بحجج الله ، وتنبيهي إياكم على ذلك . فَعَلى اللّهِ تَوَكّلْت يقول : إن كان شقّ عليكم مقامي بين أظهركم وتذكيري بآيات الله فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم ، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي وهو سندي وظهري . فأجْمِعُوا أمْرَكُمْ يقول : فأعدّوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه في أمري يقال منه : أجمعت على كذا ، بمعنى : عزمت عليه ، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يُجْمِعْ على الصّوْمِ مِنَ اللّيْلِ فَلا صَوْمَ لَهُ » بمعنى : من لم يعزم ، ومنه قول الشاعر :
يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُوَنْ يَوْما وأمْرِي مُجْمَعُ
حدثني بعض أصحابنا عن عبد الوهاب عن هارون ، عن أسيد ، عن الأعرج : فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ يقول : أحكموا أمركم وادعوا شركاؤكم .
ونصب قوله : وشُرَكَاءَكُمْ بفعل مضمر له ، وذلك : وادعوا شركاءكم ، وعطف بالشركاء على قوله : أمْرَكُمْ على نحو قول الشاعر :
ورأيْتُ زَوْجَكَ فِي الوَغَى *** مُتَقُلّدا سَيْفا وَرُمْحا
فالرمح لا يتقلد ، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليل على ما حذف ، فاكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف ، فكذلك ذلك في قوله : وَشُرَكاءَكُمْ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء الأمصار : وشَرَكاءَكُمْ نصبا ، وقوله : فَأجْمِعُوا بهمز الألف وفتحها ، من أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعا . وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : فأجمِعوا أمْرَكُمْ بفتح الألف وهمزها «وَشُرَكاؤُكُمْ » بالرفع على معنى : وأجمعوا أمركم ، وليجمع أمرهم أيضا معكم شركاؤكم .
والصواب من القول في ذلك قرارة من قرأ : فَأجْمِعُوا أمْرَكُمُ وَشُرَكاءَكُمْ بفتح الألف من «أجمعوا » ، ونصب «الشركاء » ، لأنها في المصحف بغير واو ، ولإجماع الحجة على القراءة بها ورفض ما خالفها ، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو . وعني بالشركاء آلهتهم وأوثانهم .
وقوله : ثُمّ لا يَكُنْ أمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّة يقول : ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسا مشكلاً مبهما من قولهم : غُمّ على الناس الهلال ، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه ، ومنه قول العجاج :
بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النّاسَ إذْ تُكُمّوا *** بِغُمّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرّجْ غُمّوا
وقيل : إن ذلك من الغمّ ، لأن الصدر يضيق به ولا يتبين صاحبه لأمره مصدرا يصدره يتفرج عنه ما بقلبه ، ومنه قول خنساء :
وذِي كُرْبَةٍ ابنْ عَمْروٍ خِناقَهُ *** وغُمّتَهُ عَنْ وَجُهِهِ فَتَجَلّتِ
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةٌ قالا : لا يكبر عليكم أمركم .
وأما قوله : ثُمّ اقْضُوا إليّ فإن معناه : ثم امضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه . كما :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ثُمّ اقْضُوا إليّ وَلا تُنْظِرُونَ قال : اقضوا إليّ ما كنتم قاضين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ثُم اقْضُوا إليّ وَلا تُنْظِرُونِ قال : اقضوا إليّ ما في أنفسكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله : ثُمّ اقْضُوا إليّ فقال بعضهم : معناه : امضوا إليّ ، كما يقال : قد قضى فلان ، يراد : قد مات ومضى .
وقال آخرون منهم : بل معناه : ثم افرغوا إليّ ، وقالوا : القضاء : الفراغ ، والقضاء من ذلك . قالوا : وكأن قضى دينه من ذلك إنما هو فرغ منه . وقد حُكي عن بعض القرّاء أنه قرأ ذلك : «ثُمّ أفْضُوا إليّ » بمعنى : توجهوا إليّ حتى تصلوا إليّ ، من قولهم : قد أفضى إليّ الوجع وشبهه . وقوله : ولا تُنْظِرُونِ يقول : ولا تؤخرون ، من قول القائل : أنظرت فلانا بما لي عليه من الدين . وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه : إنه بنصرة الله له عليهم واثق ومن كيدهم وتواثقهم غير خائف ، وإعلام منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع ، يقول لهم : امضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيّ على عزم منكم صحيح ، واستعينوا من شايعكم علي بآلهتكم التي تدعون من دون الله ، ولا تؤخروا ذلك فإني قد توكلت على الله وأنا به واثق أنكم لا تضرّوني إلا أن يشاء ربي . وهذا وإن كان خبرا من الله تعالى عن نوح ، فإنه حثّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به وتعريف منه سبيل الرشاد فيما قلده من الرسالة والبلاغ عنه .