قوله تعالى : { الطلاق مرتان } . روي عن عروة بن الزبير قال : كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد ، وكان الرجل يطلق امرأته ، فإذا قاربت انقضاء عدتها راجعها ، ثم طلقها كذلك ، ثم راجعها ، يقصد مضارتها ، فنزلت هذه الآية " الطلاق مرتان " يعني : الطلاق الذي يملك الرجعة عقبيه مرتان ، فإذا طلق ثلاثاً فلا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر .
قوله تعالى : { فإمساك بمعروف } . قيل : أراد بالإمساك الرجعة بعد الثالية ، والصحيح أن المراد منه : الإمساك بعد الرجعة ، يعني إذا راجعها بعد الطلقة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف ، والمعروف كل ما يعرف في الشرع ، من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة .
قوله تعالى : { أو تسريح بإحسان } . هو أن يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها ، وقيل الطلقة . قوله تعالى : ( أو تسريح بإحسان ) وصريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية ثلاثة : الطلاق والفراق والسراح ، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فحسب ، وجملة الحكم فيه أن الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها يجوز له مراجعتها بغير رضاها ما دامت في العدة ، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها ، أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها ، وإذن وليها فإن طلقها ثلاثاً فلا تحل له ، ما لم تنكح زوجاً غيره ، وأما العبد إذا كانت تحته امرأة ، فطلقها طلقتين فإنها لا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر . واختلف أهل العلم فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقاً ، فذهب أكثرهم إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج ، فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات ، والعبد لا يملك على زوجته الحرة إلا طلقتين ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : الطلاق بالرجال والعدة بالنساء ، يعني : يعتبر في عدد الطلاق حال الرجل ، وفي قدر العدة حال المرأة ، وهو قول عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم ، وبه قال عطاء وعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وذهب قوم إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق ، فيملك العبد على زوجته الحرة ثلاث طلقات ، ولا يملك الحر على زوجته الأمة إلا طلقتين وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن } . أعطيتموهن شيئاً من المهور وغيرها ثم استثنى الخلع . قوله تعالى : { إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله } . نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى ويقال : في حبيبة بنت سهل ، كانت تحت ثابت بن قيس ابن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها فكان بينهما كلام ، فأتت أباها فشكت إليه زوجها وقالت له : إنه يسيء إلي ويضربني فقال : ارجعي إلى زوجك فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها ، قال : فرجعت إليه الثانية ، وبها أثر الضرب فقال لها : ارجعي إلى زوجك ، فلما رأت أباها لا يشكيها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه زوجها وأرته آثاراً بها من ضربه وقالت : يا رسول الله لا أنا ولا هو ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فقال : مالك ولأهلك ؟ فقال : والذي بعثك بالحق نبياً ما على وجه الأرض أحب إلي منها غيرك ، فقال لها : ما تقولين ؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألها فقالت : صدق يا رسول الله ، ولكن قد خشيت أن يهلكني فأخرجني منه ، وقالت : يا رسول الله ما كنت لأحدثك حديثاً ينزل الله عليك خلافه ، فهو من أكرم الناس محبة لزوجته ، ولكني أبغضه ، فلا أنا ولا هو ، قال ثابت : يا رسول قد أعطيتها حديقة ، فقل لها تردها علي وأخلي سبيلها ، فقال لها : تردين عليه حديقته وتملكين أمرك ؟ قالت : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا زاهر بن جميل أخبرنا عبد الوهاب الثقفي أنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر بعد الإسلام . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقبل الحديقة ، وطلقها تطليقة " .
قوله تعالى : { أن لا يقيما حدود الله } . قرأ أبو جعفر وحمزة ويعقوب إلا أن يخافا ، بضم الياء أي يعلم ذلك منهما ، يعني : يعلم ذلك منهما ، يعني يعلم القاضي والولي ذلك من الزوجين ، بدليل قوله تعالى : ( فإن خفتم ) فجعل الخوف لغير الزوجين ، ولم يقل فإن خافا ، وقرأ الآخرون " يخافا " بفتح الياء أي يعلم الزوجان من أنفسهما أن لا يقيما حدود الله ، تخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها ، ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها ، فنهى الله الرجل أن يأخذ من امرأته شيئاً مما آتاها ، إلا أن يكون النشوز من قبلها ، فقالت : لا أطيع لك أمراً ولا أطأ لك مضجعاً ونحو ذلك .
قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } . أي فيما افتدت به المرأة نفسها منه ، قال الفراء : أراد بقوله " عليهما " الزوج دون المرأة ، فذكرهما جميعاً لاقترانهما كقوله تعالى ( نسيا حوتهما ) ، وإنما الناسي فتى موسى دون موسى ، وقيل : أراد أنه لا جناح عليهما جميعاً ، لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك والمعصية ، ولا فيما افتدت به وأعطت من المال ، لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير الحق ، ولا على الزوج فيما أخذ منها من المال إذا أعطته طائعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الخلع جائز على أكثر مما أعطاها ، وقال الزهري : لا يجوز بأكثر مما أعطاها من المهر . وقال سعيد بن المسيب : لا يأخذ منها جميع ما أعطاها بل يترك منه شيئاً ، ويجوز الخلع على غير حال النشوز غير أنه لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله بن زنجويه الدينوري ، أنا عبد الله بن محمد بن شيبة أنا أحمد بن جعفر المستملي ، أنا أبو محمد يحيى بن إسحاق بن شاكر بن أحمد بن خباب ، أنا عيسى بن يونس ، أنا عبد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق ، ولا أحب إليه من العتق " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن زنجويه ، أنا ابن أبيشيبة ، أنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، أنا أبي ، أنا أسامة عن حماد ابن زيد عن أبي أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " .
وقال طاووس : الخلع يختص بحالة خوف النشوز لظاهر الآية ، والآية خرجت على وفق العادة في أن الخلع لا يكون إلا في حال خوف النشوز غالباً ، وإذا طلق الرجل امرأته بلفظ الطلاق على مال فقبلت ، وقعت البينونة وانتقض به العدد . واختلف أهل العلم في الخلع ، فذهب أكثرهم إلى أنه : تطليقة بائنة ينقص به عدد الطلاق ، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والنخعي ، وإليه ذهب مالك والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أظهر قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه فسخ لا ينتقص به عدد الطلاق ، وهو قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وبه قال عكرمة وطاووس وإليه ذهب أحمد وإسحاق ، واحتجوا بأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين ، ثم ذكر بعده الخلع ، ثم ذكر بعده الطلقة الثالثة فقال : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، ولو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً ، ومن قال بالقول الأول جعل الطلقة الثالثة : أو تسريح بإحسان .
قوله تعالى : { تلك حدود الله } . أي هذه أوامر الله ونواهيه ، وحدود الله : ما منع الشرع من المجاوزة عنه .
والحكم التالي يختص بعدد الطلقات ، وحق المطلقة في تملك الصداق ، وحرمة استرداد شيء منه عند الطلاق ، إلا في حالة واحدة : حالة المرأة الكارهة التي تخشى أن ترتكب معصية لو بقيت مقيدة بهذا الزواج المكروه . وهي حالة الخلع التي تشتري فيها المرأة حريتها بفدية تدفعها :
( الطلاق مرتان . فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا . إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله . فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به . تلك حدود الله فلا تعتدوها . ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) . .
الطلاق الذي يجوز بعده استئناف الحياة مرتان . فإذا تجاوزهما المتجاوز لم يكن إلى العودة من سبيل إلا بشرط تنص عليه الآية التالية في السياق . وهو أن تنكح زوجا غيره ، ثم يطلقها الزوج الآخر طلاقا طبيعيا لسبب من الأسباب ، ولا يراجعها فتبين منه . . وعندئذ فقط يجوز لزوجها الأول أن ينكحها من جديد ، إذا ارتضته زوجا من جديد .
وقد ورد في سبب نزول هذا القيد ، أنه في أول العهد بالإسلام كان الطلاق غير محدد بعدد من المرات . فكان للرجل أن يراجع مطلقته في عدتها ، ثم يطلقها ويراجعها . هكذا ما شاء . . ثم إن رجلا من الأنصار اختلف مع زوجته فوجد عليها في نفسه ، فقال : والله لا آويك ولا أفارقك . قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك . فذكرت ذلك للرسول [ ص ] فأنزل الله عز وجل : ( الطلاق مرتان ) . .
وحكمة المنهج الرباني الذي أخذ به الجماعة المسلمة مطردة في تنزيل الأحكام عند بروز الحاجة إليها . . حتى استوفى المنهج أصوله كلها على هذا النحو . ولم يبق إلا التفريعات التي تلاحق الحالات الطارئة ، وتنشىء حلولا مستمدة من تلك الأصول الشاملة .
وهذا التقييد جعل الطلاق محصورا مقيدا ؛ لا سبيل إلى العبث باستخدامه طويلا . فإذا وقعت الطلقة الأولى كان للزوج في فترة العدة أن يراجع زوجه بدون حاجة إلى أي إجراء آخر . فأما إذا ترك العدة تمضي فإنها تبين منه ؛ ولا يملك ردها إلا بعقد ومهر جديدين . فإذا هو راجعها في العدة أو إذا هو أعاد زواجها في حالة البينونة الصغرى كانت له عليها طلقة أخرى كالطلقة الأولى بجميع أحكامها . فأما إذا طلقها الثالثة فقد بانت منه بينونة كبرى بمجرد إيقاعها فلا رجعة فيها في عدة ، ولا عودة بعدها إلا أن ينكحها زوجا آخر . ثميقع لسبب طبيعي أن يطلقها . فتبين منه لأنه لم يراجعها . أو لأنه استوفى عليها عدد مرات الطلاق . فحينئذ فقط يمكن أن تعود إلى زوجها الأول .
إن الطلقة الأولى محك وتجربة كما بينا . فأما الثانية فهي تجربة أخرى وامتحان أخير . فإن صلحت الحياة بعدها فذاك . وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة .
وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجا أخيرا لعلة لا يجدي فيها سواه . فإذا وقعت الطلقتان : فإما إمساك للزوجة بالمعروف ، واستئناف حياة رضية رخية ؛ وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء . وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد . . وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية ؛ ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار ، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه . ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال !
ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها . ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية ؛ وتحس أن كراهيتها له ، أو نفورها منه ، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة ، أو العفة ، أو الأدب . فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه ؛ وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه ؛ برد الصداق الذي أمهرها إياه ، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدي حدوده ، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال . وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس ؛ ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها ؛ ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها ؛ وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه .
ولكي نتصور حيوية هذا النص ومداه ، يحسن أن نراجع سابقة واقعية من تطبيقه على عهد رسول الله [ ص ] تكشف عن مدى الجد والتقدير والقصد والعدل في هذا المنهج الرباني القويم .
روى الإمام مالك في كتابه : الموطأ . . أن حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس . وأن رسول الله [ ص ] خرج في الصبح ، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس . فقال رسول الله [ ص ] : " من هذه ؟ " قالت : أنا حبيبة بنت سهل ! فقال : " ما شأنك ؟ " فقالت : لا أنا ولا ثابت بن قيس - لزوجها - فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله [ ص ] : " هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر " . . فقالت حبيبة : يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي . فقال رسول الله [ ص ] : " خذ منها " فأخذ منها وجلست في أهلها .
وروى البخاري - بإسناده - عن ابن عباس رضي الله عنهما - أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي [ ص ] فقالت : يا رسول الله . ما اعيب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله [ ص ] : " أتردين عليه حديقته ؟ " [ وكان قد أمهرها حديقة ] قالت : نعم . قال رسول الله [ ص ] : " أقبل الحديقة وطلقها تطليقة " . .
وفي رواية أكثر تفصيلا رواها ابن جرير بإسناد - عن أبي جرير أنه سأل عكرمة : هل كان للخلع أصل ؟ قال : كان ابن عباس يقول : إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي . إنها أتت رسول الله [ ص ] فقالت : يا رسول الله ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا . إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها . فقال زوجها : يا رسول اللهإني قد أعطيتها أفضل مالي : حديقة لي . فإن ردت علي حديقتي . قال : ما تقولين ؟ قالت : نعم وإن شاء زدته . قال : ففرق بينهما . .
ومجموعة هذه الروايات تصور الحالة النفسية التي قبلها رسول الله [ ص ] وواجهها مواجهة من يدرك أنها حالة قاهرة لا جدوى من استنكارها وقسر المرأة على العشرة ؛ وأن لا خير في عشرة هذه المشاعر تسودها . فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية ؛ ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقية .
ولما كان مرد الجد أو العبث ، والصدق أو الاحتيال ، في هذه الأحوال . . هو تقوى الله ، وخوف عقابه . جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله :
( تلك حدود الله فلا تعتدوها . ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) . .
ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد ، حسب اختلاف الملابستين :
في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم . ورد تعقيب : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . . وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) . .
في الأولى تحذير من القرب . وفي الثانية تحذير من الاعتداء . . فلماذا كان الاختلاف ؟
في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة :
( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . . هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . . علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ، فتاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم . وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . . تلك حدود الله فلا تقربوها ) . .
والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية . فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها ، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها !
أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات . فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف ؛ وتجاوزها وعدم الوقوف عندها . فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة . بسبب اختلاف المناسبة . . وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة !