معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } الآية ، قال المفسرون : لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه ، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف ، وهو يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهو إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمرو بن عمير ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة ، إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر : ما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله ما أكلمك كلمة أبداً ، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم ، وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : إذ فعلتم فاكتموه علي وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيديلهم عليه ذلك ، فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ، فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف ، ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح ، فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك ؟ . فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أنت أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري ؟ ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك . فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له : عداس ، فقالا له : خذ قطفاً من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه ، ففعل ذلك عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال : بسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أي البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ قال : أنا نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي ، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ، فلما جاءهم عداس قالا له : ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل ، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي ، فقالا : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا ، فقص الله خبرهم عليه ، فقال : ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن ) .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : " انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، فأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة ، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } ( الجن-2 ) ، فأنزل الله على نبيه : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } ( الجن-1 ) وإنما أوحي إليه قول الجن . وروي : أنهم لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر ، وكان أول بعث بعث ركباً من أهل نصيبين ، وهم أشراف الجن وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة . وقال أبو حمزة اليماني : بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً ، وهم عامة جنود إبليس ، فلما رجعوا قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً . وقال جماعة : بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف إليه نفراً من الجن من أهل نينوى ، وجمعهم له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة ، فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له : شعب الحجون ، وخط لي خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ، وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي ، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق إلي وقال : أنمت ؟ فقلت : لا والله يا رسول الله ، وقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : اجلسوا ، قال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئاً ؟ قلت : نعم يا رسول الله رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض ، قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع -والمتاع الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة . قال : فقالوا : يا رسول الله تقذرها الناس ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بالعظم والروث . قال : فقلت : يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكله ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، قال فقلت : يا رسول الله سمعت لغطاً شديداً ؟ فقال : إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق ، قال : ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني ، فقال :هل معك ماء ؟ قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر ، فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال : ثمرة طيبة وماء طهور . وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فأفزعوه حين رآهم ، فقال : اظهروا ، فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزط ، فقال : ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد الجن " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر قال : " سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله ليلة الجن ؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير أو اغتيل ، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، قال فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن . قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . قال : وسألوه الزاد ، فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن " . ورواه مسلم عن علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بهذا الإسناد إلى قوله : " وآثار نيرانهم " . قال الشعبي : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلاً من حديث عبد الله . قوله عز وجل : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } اختلفوا في عدد ذلك النفر ، فقال ابن عباس : كانوا سبعة من جن نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم . وقال آخرون : كانوا تسعة . وروى عاصم عن زر بن حبيش : كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن . { فلما حضروه قالوا أنصتوا } قالوا : صه . وروي في الحديث : أن الجن ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون . فلما حضروه قال بعضهم لبعض : أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته ، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء ، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم . { فلما قضي } فرغ من تلاوته ، { ولوا إلى قومهم } انصرفوا إليهم ، { منذرين } مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

{ 29-32 } { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة .

فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم ، وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه { نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } أي : وصى بعضهم بعضا بذلك ، { فَلَمَّا قُضِي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

هذا تأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً عند الثقلين ومعظَّماً في العالَمَيْن وذلك ما لم يحصل لرسول قبله .

والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر عَلِموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار ، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم . ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف : 18 ] .

فالجملة معطوفة على جملة { واذكر أخا عاد } [ الأحقاف : 21 ] عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا { إذْ صرفنا } بفعل يدل عليه قوله : { واذكر أخا عاد } والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن . وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون .

وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لِهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه . ففي « جامع الترمذي » عن ابن عباس قال : « ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخْلة ، اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً » . وفي « الصحيح » عن ابن مسعود « افتقدْنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فَعل به اغتيل أو واستطيرَ فبتنا بشرِّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قِبَل حِراء فقال " أتاني دَاعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن "

وأيًّا مَّا كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد تقدم قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } في سورة الأنعام ( 130 ) .

والصرف : البعث . والنفر : عدد من الناس دون العشرين . وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله : { من الجن } .

وجملة { يستمعون القرآن } في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيداً لعاملها وهو { صرفنا } كان التقدير : يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدَّى المفعول لأجله .

فالمعنى : صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن .

وضمير { حضروه } عائد إلى القرآن ، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارىء القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم و { أنصتوا } أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء . وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « استنصت الناس » ، أي قبل أن يبدأ في خطبته .

وفي الحديث : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنْصِت والإمام يخطب فقد لغوت " ، أي قالوا كلُّهم : أنصتوا ، كل واحد يقولها للبقية حرصاً على الوعي فنطق بها جميعهم .

و { قُضِي } مِبني للنائب . والضمير للقرآن بتقدير مضاف ، أي قضيت قراءته ، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف ( ولَّوا ) ، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب { قومهم } على طريقة المجاز ، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس ، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن .

والمنذر : المخبر بخبر مخيف .

ومعنى { ولوا إلى قومهم منذرين } رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن . والتبشير لمن عمِل بما جاء به القرآن . ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص .