النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

قوله عز وجل : { وَإذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْءَانَ {[2640]} } فيه قولان :

أحدهما : أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما هذا الذي حدث في الأرض ؟ فضربوا في الأَرض حتى وقفوا على النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عائداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر ، فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي ويقتدي به أصحابه ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً ، قاله ابن عباس .

وحكى عكرمة أن السورة التي كان يقرأها ببطن نخلة { اقرأ بِاسِمِ رَبِّكَ } [ العلق :1 ] وحكى ابن عباس أنه كان يقرأ في العشاء { كَادوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .

الثاني : أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله لهم حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة .

وفيهم أربعة أقاويل :

أحدها : أنهم جن من أهل نصيبين ، قاله ابن عباس .

الثاني : أنهم من أهل نينوى ، قاله قتادة .

الثالث : أنهم من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .

الرابع : من أهل نجران ، قاله مجاهد .

واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنهم كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .

الثاني : أنهم كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، قاله زر بن حبيش .

الثالث : أنهم كانوا سبعة ثلاثة من أهل نجران{[2641]} وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وناصر{[2642]} والأرد وأنيان الأحقم ، قاله مجاهد .

واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم بهم على قولين :

أحدهما : أنه ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فيهم وأخبره عنهم ، قاله ابن عباس والحسن .

الثاني : أن الله قد كان أعلمه بهم قبل مجيئهم .

روى شعبة عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي ؟ » فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك ، قال عكرمة وقال لابن مسعود : « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ » فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ ذَهَبْتَ مَا التَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ{[2643]} »

ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم تلا عليهم القرآن وقضى بينهم في قتيل منهم . وروى قتادة عن ابن مسعود أنهم سألوه الزاد فقال : « كُلُّ عَظْمٍ لَكُم عِرْقٌ ، وَكُلٌّ {[2644]}رَوَثَةٍ لَكُم خَضِرَةٌ » فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا ، فنهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما .

روى عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إِنَّ وَفْدَ الجِنَّ سَأَلُونِي المَتَاع ، - وَالمَتَاعُ : الزَّادُ - فَمَتَّعْتُهُم بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَبَعْرَةٍ أَوْ رَوَثَةٍ » فقلت : يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال : « إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثة ولا بعرة إلا وجدوا فيها حبها{[2645]} يوم أكلت ، فلا يستنجين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة{[2646]} » .

{ فَلَمَّا حَضَرُوه{[2647]} قَالُوا أنصِتُوا } يحتمل وجهين :

أحدهما : فلما حضروا قراءة القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا لسماع القرآن .

الثاني : لما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنصتوا لسماع قوله .

{ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } فيه وجهان :

أحدهما : فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الكلبي : مخوفين : قاله الضحاك .

الثاني : فلما فرغ من قرءاة القرآن ولوا إلى قومهم منذرين ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .


[2640]:سبب نزول الآية رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود.
[2641]:في ظ حران.
[2642]:في ك وباصر وفي تفسير القرطبي وماصر والحق أن الكتب مختلفة في أسماهم اختلافا كثيرا والله أعلم بالصواب.
[2643]:رواه البخاري في مناقب الأنصار، والترمذي في تفسير سورة الأحقاف.
[2644]:في ك ولكم روثة.
[2645]:حبها ساقطة من ك.
[2646]:رواه البخاري في مناقب الأنصار، ومسلم في الصلاة، والترمذي رقم 3254.
[2647]:حضروه: في ك حضروا وهو تحريف.