{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ } الآية . قال المفسِّرون : لمّا مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس ثقيف النصرة ، والمنعة له من قومه ، فروى محمّد بن أحمد عن يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي ، قال : " لمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف ، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمر بن عمير ، عندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم ، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه .
فقال أحدهم ، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك ، وقال الآخر : أما وجد الله أحد يرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله لا أُكلّمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول ، لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أُكلّمك .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : " إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه " .
وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك ، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم ، وعبيدهم يسبّونه ، ويصيحون به ، حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة ، وشيبة ابني ربيعة ، هما فيه ، ورجع عنه سفهاء ثقيف .
ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة من بني جمح ، فقال لها : " ماذا لقينا من أحمائك ؟ " . فلمّا اطمئن رسول الله ، قال : " اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على النّاس ، يا أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربّي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوَ ملّكته أمري . إن لم يكن بك عليَّ غضب ، فلا أُبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع ، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك ، ويحلّ عليَّ سخطك ، لك العتبى حتّى ترضى ، لا حول ، ولا قوّة إلاّ بك " .
فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما ، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً ، يقال له : عداس . فقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا وضع رسول الله يده ، قال : " بسم الله " .
ثمّ أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ، ثمّ قال : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة . قال له رسول الله : " ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ " . قال : أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى .
فقال له رسول الله : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى " . قال له : وما يدريك ما يونس بن متّى ؟ قال له رسول الله : " ذاك أخي ، كان نبيّاً وأنا نبيّ " . فأكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّل رأسه ، ويديه ، ورجليه . قال : فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه ، أما غلامك فقد أفسده عليك . فلمّا جاءهم عداس ، قالا له : ويلك يا عداس ما لكَ تقبّل رأس هذا الرجل ، ويديه ، ورجليه ؟ قال : يا سيّدي ما في الأرض خيرٌ من هذا ، لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلاّ نبي . فقال : ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك ، فإنّ دينك خيرٌ من دينه .
ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف ، حتّى إذا كان بنخلة ، قام من جوف الليل يصلّي ، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن ، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع ، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب . قال إبليس : إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض ، فبعث سراياه لتعرف الخبر ، فكان أوّل بعث بُعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة ، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة ، ببطن نخلة ويتلو القرآن ، فاستمعوا إليه ، وقالوا : أنصتوا . هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمّة الخبر ، ورواية العوفي عن ابن عباس ، وقال آخرون : بل أُمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفراً من الجنّ من نينوى وجمعهم له ، فقال رسول الله : " إنّي أُمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني ؟ " فأطرقوا ثمّ استتبعهم فأطرقوا ، ثمّ استتبعهم الثالثة ، فاتبعه عبدالله بن مسعود ، قال عبدالله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة دخل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له : شعب الحجون وخط إليَّ خطّاً ، ثمّ أمرني أن أجلس فيه .
قال : " لا تخرج منه حتّى أعود إليك " . ثمّ انطلق حتّى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال النسور تهوي تمشي في رفوفها ، وسمعت لغطاً شديداً ، حتّى خفت على نبي الله ، وغشيته أسورة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتّى ما أسمع صوته ، ثمّ طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب داهنين ، ففزغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، ثمّ انطلق إليَّ ، وقال : " أنمت ؟ " فقلت : لا والله لقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتّى سمعتك تقرعهم بعصاك . تقول : " اجلسوا " .
قال : " لو خرجت لم آمن أن يتخطّفك بعضهم " . ثمّ قال : " هل رأيت شيئاً ؟ " . قلت : نعم رأيت رجالاً سوداً مسفري ثياب بيض . فقال : " أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع " والمتاع الزاد " فمتعتهم بكلّ عظم حائل وبعرة وروثة " . فقالوا : يا رسول الله يقذرها الناس علينا . فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُستنجى بالعظم والروث . قال : فقلت : يا رسول الله وما يعني ذلك عنهم ؟ قال : " إنّهم لا يجدون عظماً إلاّ وجدوا عليه لحمة يوم أُكل ، ولا روثة إلاّ وجدوا فيها حبّها يوم أُكلت " .
فقلت : يا رسول الله ، لغطاً شديداً . فقال : " إنّ الجنّ يدارك في قتيل قتل بينهم " وقيل : قتل " فتحاكموا إليَّ ، فقضيت بينهم بالحقّ " . قال : ثمّ تبرّز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ أتاني فقال : " هل معك ماء ؟ " . قلت : يا رسول الله معي أداوة فيها شيء من نبيذ التمر ، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضّأ . وقال : " تمرة طيبة وماء طهور "
قال قتادة : فذكر لنا ابن مسعود لمّا قدم الكوفة رأى شيوخاً شمُطاً من الزط ، فأفزعوه حين رآهم . وقال : اظهروا . فقيل له : إنّ هؤلاء قوم من الزط ، فقال : ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الجنّ .
قال : أخبرنيه ابن منجويه ، حدّثنا ابن حنش المقري ، حدّثنا ابن زنجويه ، حدّثنا سلمة ، حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، عن قتادة بمثل معناه إلاَّ إنّه لم يذكر قصة نبيذ التمر .
أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي ، حدّثنا محمّد بن الحسن الصوفي ، حدّثنا أبو جعفر محمّد بن صالح بن ذريح ، حدّثنا مسروق بن المرزبان ، حدّثنا ابن أبي زائدة ، حدّثنا داود بن أبي هند ، " عن علقمة ، قال : سألت عبد الله بن مسعود ، هل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الجنّ ؟ .
فقال : لا لم يصحبه منّا أحدٌ . ولكنّا فقدناهُ ذات ليلة ، فقلنا استطير أو اغتيل ، فتفرّقنا في الشعاب والأودية نلتمسه ، فلمّا أصبحنا رأيناه مقبلاً من نحو حراء .
فقلنا :يا رسول الله ، بتنا بشرِّ ليلة بات بها قوم ، نقول : استطير أو اغتيل .
فقال : " إنّه أتاني داع من الجنّ ، فذهبت أُقرئهم القرآن " . قال : وأراني آثارهم وآثار نيرانهم . قال : " فسألوه ليلتيئذ الزاد " .
فقال : " فكلّ عظم لم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحماً ، والبعر لدوابكم " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تستنجوا بالعظام ولا بالبعر فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ " " .
أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه ، حدّثنا أبو بكر بن خرجه ، حدّثنا محمّد بن أيّوب ، أخبرنا سلمان بن داود الشاذكوي ، عن خالد بن عبد الله الواسطي ، عن خالد الحذّاء ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لم أكن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ وودت أنّي كنت معه .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا موسى بن محمّد بن علي ، حدّثنا يوسف بن يعقوب القاضي ، حدّثنا سليمان بن حرب ، حدّثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سألت أبا عبيدة بن عبد الله ، أكان عبد الله مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ ؟ قال : لا . قال : وسألت إبراهيم . فقال : ليت صاحبنا كان ذاك .
قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } اختلفوا في مبلغ عددهم ، فقال ابن عبّاس : كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رُسلاً إلى قومهم .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا طلحة بن محمّد بن جعفر ، وعبيدالله بن أحمد بن يعقوب ، قالا : أخبرنا أبو بكر بن مجاهد ، حدّثني أحمد بن حرب ، حدّثنا سنيد ، حدّثنا حجاج ، قال : قال ابن جريح : أخبرني وهب بن سلَمان ، عن شعيب الحماني . إنّ أسماء الجنّ الّذين صرفهم الله تعالى إلى رسوله شاصر ، وماصر ، ومنشي ، وماشي ، والأحقب وقال آخرون : كانوا تسعة .
أخبرني أبو علي السراج ، أخبرنا أبو بكر القطان ، حدّثنا أحمد بن يوسف السّلمي ، حدّثنا محمّد بن يوسف الفريابي ، قال : ذكر سفيان ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : كان زوبعة من التسعة الّذين استمعوا القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم .
{ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ } قالوا : صه . وبإسناده عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ثابت بن قطبة الثقفي ، قال : جاء أُناسٌ إلى عبدالله بن مسعود ، قالوا : كنّا في سفر فرأينا حيّة متشحّطة في دمها مقتولة ، فأخذها رجل منّا ، فواريناها ، فلمّا ولّوا جاءهم ناس ، فقالوا : إنّكم دفنتم عمراً ، فقالوا ومَنْ عمر ؟ قالوا : الحيّة التي دفنتم في مكان كذا وكذا . أمّا إنّه كان من النفر الّذين استمعوا القرآن من النبي ( عليه السلام ) وكان بين حيّتين من الجنّ من المسلمين وغيرهم ، فزال ، فقتل .
أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عمر بن الخطّاب ، حدّثنا عبدالله بن الفضل ، حدّثنا سهل بن حمزة ، حدّثنا عبد الله بن صالح ، حدّثني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أبي ثعلبة الحشي إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الجنّ على ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلّون ويظعنون " .
فلمّا حضروه ، قالوا : قال : بعضهم لبعض أنصتوا ، فأنصتوا واستمعوا القرآن ، حتّى كاد يقع بعضهم على بعض من شدّة حرصهم ، نظيرما في سورة الجنّ .
{ فَلَمَّا قُضِيَ } فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجان . وقرأ لاحق بن حميد ( قَضَى ) بفتح ( القاف ) و( الضاد ) ، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم . { وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } مخوّفين داعين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم