قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن . . . } الآية لما بين أن في الإنس مَنْ آمَنَ ، ومنهم من كفر ، بين أيضاً أن في الجن من آمن ومنهم من كفر ، وأن مؤمنهم مُعَرّض للثواب ، وأن كافرهم معرض للعقاب .
قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ } منصوب باذْكُرْ مقدراً . وقرئ : صَرفنا{[51091]} بالشديد للتكثير «مِنْ الْجِنِّ » صفة ل «نَفَراً » ويجوز أن يتعلق ب «صَرْفَنا » و«مِنْ » لابتداء الغاية .
قوله : «يسمعون » صفة أيضاً لنفراً ، أو حال ، لتخصصه بالصفة إن قلنا : إن «مِنَ الْجِنِّ » صفة له وراعى معنى النفر فأعاد ليه الضمير جمعاً ، ولو راعى لفظه فقال : يستمع لجاز{[51092]} .
قوله : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر ، وأن تكون للرسول صلى الله عليه وسلم{[51093]} وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله : «إلَيْكَ » إلى الغيبة في قوله «حَضَرُوهُ » .
قوله : { فَلَمَّا قُضِيَ } العامة على بنائه للمفعول ، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود «هاء » حضروه على القرآن . وأبو مِجْلزٍ{[51094]} وحبيب بن عبد الله قَضَى مبنياً للفاعل ، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول عليه الصلاة والسلام .
ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين :
الأول : قال سعيد بن جبير : كانت الجن تَسْتَمع ، فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إما حدث لشيء في الأرض ؟ فذهبوا يطلبون السّبب . وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أَيِسَ{[51095]} من أهله مكة أن يُجِيبُوه خرج إلى الطائف ، ليَدْعُوَهُمْ إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن ، فمر به نفرٌ من أشراف ( جِنِّ ){[51096]} نَصِيبِينَ ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن ، فعرفوا أن ذلك هو السبب .
والقول الثاني : أن الله أمر رسوله أن يُنْذِرَ الجنَّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف إليه نفراً من الجن ليَسْتَمِعُوا منه القرآن ، ويُنْذِرُوا{[51097]} قومهم ( انتهى ){[51098]} .
نقل القاضي في تفسيره أن الجنَّ كانوا يهوداً ؛ لأن في الجن مِلَلاً{[51099]} كما في الإنس من اليهود والنَّصارَى والمجوس وعبدة الأوثان ، وأطبق المحقِّقون على أن الجنة مكلفون . سئل أبن عباس : هل للجن ثواب ؟
قال : نعم : لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدَحِمُونَ على أبوابها{[51100]} .
قال الزمخشري : النَّفَرُ دون العَشَرَةِ ويجمع على «أَنْفَارٍ » روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنَّ كانوا سبعة نفر من أهل نصِيبِين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .
وعن زِرِّ بن حبيش كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى . واختلفت الروايات في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟{[51101]}
روى القاضي في تفسيره عن أنس قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة إذْ أَقْبَلَ شيخ يَتَوَّكأ على عُكَّازِهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنها لمشية جنِّيِّ ، ثم أتَى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لنغمةُ جِنِّيّ ، فقال الشيخ : أَجَلْ يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من أَيِّ الجن أنت ؟ قال يا رسول الله : أنا هَامُ{[51102]} بن هِيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا أدري بينك وبين إبليس إلا أبوين قال : أجل يا رسول الله . قال كم أتى عليك مِنَ العُمر . قال : أكلت عُمر الدنيا إلا القليل كنت حين قَتَلَ قابيلُ هابيلَ غلاماً ابن أعوام فكنت أَتَشَوفُ{[51103]} على الآكام{[51104]} ، وأصْطادُ الهَامَ{[51105]} وأُوْرِشُ{[51106]} بين الأنَام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس العملُ قال يا رسول الله دعني من العتب ، فإني ممن آمن مع نوحٍ عليه الصلاة والسلام وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال : إني والله لَمِنَ النّادمين ، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين . ولَقِيتُ إبراهيم وآمنت به ، وكنت بينه وبين الأرض إذ رُمِيَ به في المَنْجَنِيق ، كنت معه في النار إذْ أُلْقِيَ فيها وكنت مع يوسف إذ أُلقِيَ في الجُبِّ فسبقته إلى قصره ولَقِيتُ موسى بْنَ عِمْرَان بالمكان الأثير . وكنت مع عيسى ابن مَرْيَمَ فقال لي : إن لَقِيتَ مُحَمَّداً فاقرأ عليه السلام علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل ، فعلّمني القرآن . قال أنس : فعَلَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سُوَرٍ ، وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَنْعِهِ إلينا . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا أراه إلا حيًّا{[51107]} . وروي أنه عمله سورة الواقعة ، و{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] و{ إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] و{ قُلْ يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] وسورة الإخلاص والمُعَوِّذَتَين{[51108]} .
اختلفوا في عدد النفر ، فقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) كانوا سبعة وقد تقدم ، وقيل : كانوا تسعةً . وروى عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش{[51109]} كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن ، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسْكُتُوا{[51110]} مستمعين يقال : أَنْصَتَ لِكَذَا ، واسْتَنْصَتُّ لَهُ . روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف ، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيَّاتٍ وكِلاَب ، وصنف يحلّون ويظْعَنُون .
ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم } انصرفوا إليهم «مُنْذِرِينَ » مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم ، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن ، والتصديق به ، إلا وقد آمنوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.