اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن . . . } الآية لما بين أن في الإنس مَنْ آمَنَ ، ومنهم من كفر ، بين أيضاً أن في الجن من آمن ومنهم من كفر ، وأن مؤمنهم مُعَرّض للثواب ، وأن كافرهم معرض للعقاب .

قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ } منصوب باذْكُرْ مقدراً . وقرئ : صَرفنا{[51091]} بالشديد للتكثير «مِنْ الْجِنِّ » صفة ل «نَفَراً » ويجوز أن يتعلق ب «صَرْفَنا » و«مِنْ » لابتداء الغاية .

قوله : «يسمعون » صفة أيضاً لنفراً ، أو حال ، لتخصصه بالصفة إن قلنا : إن «مِنَ الْجِنِّ » صفة له وراعى معنى النفر فأعاد ليه الضمير جمعاً ، ولو راعى لفظه فقال : يستمع لجاز{[51092]} .

قوله : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } يجوز أن تكون الهاء للقرآن وهو الظاهر ، وأن تكون للرسول صلى الله عليه وسلم{[51093]} وحينئذ يكون في الكلام التفات من قوله : «إلَيْكَ » إلى الغيبة في قوله «حَضَرُوهُ » .

قوله : { فَلَمَّا قُضِيَ } العامة على بنائه للمفعول ، أي فرغ من قراءة القرآن وهو يؤيد عود «هاء » حضروه على القرآن . وأبو مِجْلزٍ{[51094]} وحبيب بن عبد الله قَضَى مبنياً للفاعل ، أي أتم الرسول قراءته وهي تؤيد عودها على الرسول عليه الصلاة والسلام .

فصل

ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين :

الأول : قال سعيد بن جبير : كانت الجن تَسْتَمع ، فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إما حدث لشيء في الأرض ؟ فذهبوا يطلبون السّبب . وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أَيِسَ{[51095]} من أهله مكة أن يُجِيبُوه خرج إلى الطائف ، ليَدْعُوَهُمْ إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن مكة نخلة قام يقرأ القرآن ، فمر به نفرٌ من أشراف ( جِنِّ ){[51096]} نَصِيبِينَ ، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن ، فعرفوا أن ذلك هو السبب .

والقول الثاني : أن الله أمر رسوله أن يُنْذِرَ الجنَّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف إليه نفراً من الجن ليَسْتَمِعُوا منه القرآن ، ويُنْذِرُوا{[51097]} قومهم ( انتهى ){[51098]} .

فصل

نقل القاضي في تفسيره أن الجنَّ كانوا يهوداً ؛ لأن في الجن مِلَلاً{[51099]} كما في الإنس من اليهود والنَّصارَى والمجوس وعبدة الأوثان ، وأطبق المحقِّقون على أن الجنة مكلفون . سئل أبن عباس : هل للجن ثواب ؟

قال : نعم : لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في أبواب الجنة ويزدَحِمُونَ على أبوابها{[51100]} .

فصل

قال الزمخشري : النَّفَرُ دون العَشَرَةِ ويجمع على «أَنْفَارٍ » روى الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجنَّ كانوا سبعة نفر من أهل نصِيبِين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .

وعن زِرِّ بن حبيش كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى . واختلفت الروايات في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟{[51101]}

فصل

روى القاضي في تفسيره عن أنس قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة إذْ أَقْبَلَ شيخ يَتَوَّكأ على عُكَّازِهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنها لمشية جنِّيِّ ، ثم أتَى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لنغمةُ جِنِّيّ ، فقال الشيخ : أَجَلْ يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من أَيِّ الجن أنت ؟ قال يا رسول الله : أنا هَامُ{[51102]} بن هِيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا أدري بينك وبين إبليس إلا أبوين قال : أجل يا رسول الله . قال كم أتى عليك مِنَ العُمر . قال : أكلت عُمر الدنيا إلا القليل كنت حين قَتَلَ قابيلُ هابيلَ غلاماً ابن أعوام فكنت أَتَشَوفُ{[51103]} على الآكام{[51104]} ، وأصْطادُ الهَامَ{[51105]} وأُوْرِشُ{[51106]} بين الأنَام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس العملُ قال يا رسول الله دعني من العتب ، فإني ممن آمن مع نوحٍ عليه الصلاة والسلام وعاتبته في دعوته فبكا وأبكاني وقال : إني والله لَمِنَ النّادمين ، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين . ولَقِيتُ إبراهيم وآمنت به ، وكنت بينه وبين الأرض إذ رُمِيَ به في المَنْجَنِيق ، كنت معه في النار إذْ أُلْقِيَ فيها وكنت مع يوسف إذ أُلقِيَ في الجُبِّ فسبقته إلى قصره ولَقِيتُ موسى بْنَ عِمْرَان بالمكان الأثير . وكنت مع عيسى ابن مَرْيَمَ فقال لي : إن لَقِيتَ مُحَمَّداً فاقرأ عليه السلام علّمني التوراة وإن عيسى علمني الإنجيل ، فعلّمني القرآن . قال أنس : فعَلَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سُوَرٍ ، وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَنْعِهِ إلينا . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا أراه إلا حيًّا{[51107]} . وروي أنه عمله سورة الواقعة ، و{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] و{ إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] و{ قُلْ يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] وسورة الإخلاص والمُعَوِّذَتَين{[51108]} .

فصل

اختلفوا في عدد النفر ، فقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) كانوا سبعة وقد تقدم ، وقيل : كانوا تسعةً . وروى عاصم عن زِرِّ بن حُبَيْش{[51109]} كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن ، فلما حضروه قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا أي اسْكُتُوا{[51110]} مستمعين يقال : أَنْصَتَ لِكَذَا ، واسْتَنْصَتُّ لَهُ . روي في الحديث أن الجنة ثلاثة أصناف ، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيَّاتٍ وكِلاَب ، وصنف يحلّون ويظْعَنُون .

ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم } انصرفوا إليهم «مُنْذِرِينَ » مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم ، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن ، والتصديق به ، إلا وقد آمنوا .


[51091]:ولم يحددها أبو حيان في البحر 8/67 وهي شاذة غير متواترة وقد ذكرها الزمخشري دون نسبة أيضا في الكشاف 3/526.
[51092]:انظر التبيان للعكبري 1159.
[51093]:الكشاف 3/526.
[51094]:البحر المحيط 8/67 والكشاف 3/526.
[51095]:في ب أمن خطأ.
[51096]:سقط من ب.
[51097]:في النسختين يستمعوا... وينذروا وهو خطأ نحوي والأصح ما أثبت أعلى.
[51098]:زيادة من ب.
[51099]:كذا في ب والرازي وفي أ مثلا والتصحيح من ب.
[51100]:انظر الرازي 28/31.
[51101]:الرازي السابق وانظر الكشاف 3/526.
[51102]:في الرازي: هامة.
[51103]:وفيه مشى وتشوف إذا ارتفع على معاقل الجبال فأشرف.
[51104]:قيل: هو القف من الحجارة الواحدة وقيل: هو دون الجبال، وقيل غير ذلك وهو جمع أكم جمع إكام جمع أكمة. انظر اللسان أكم 103.
[51105]:الرأس من كل ذي روح.
[51106]:الوراش هو الطفيلي المشتهي للطعام، والتوريش التحريش. انظر اللسان ورش 4812.
[51107]:انظر هذا الأثر في تفسير الرازي 28/32.
[51108]:قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس.
[51109]:القرطبي 16/213.
[51110]:لم أعثر عليه في الكتب الصحاح أو غيرها من كتب الحديث.