البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

{ وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر ، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر ؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه ، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة .

والجن توصف أيضاً بذلك ، كما قال تعالى : { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين }

وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح ، وهو من العالم الذي لا يشاهد ، وإنما يحس بهبوبه .

والجن أيضاً من العالم الذي لا يشاهد .

وإن هوداً عليه السلام كان من العرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب ، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها .

وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب ، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز ، فكفروا به ، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن ، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم .

وهؤلاء جن ، فليسوا من جنسه ، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه ، وعلموا أنه من عند الله ، بخلاف قريش وأمثالها ، فهم مصرون على الكفر به .

{ وإذ صرفنا } : وجّهنا إليك .

وقرأ : صرفنا ، بتشديد الراء ، لأنهم كانوا جماعة ، فالتكثير بحسب الحال .

{ نفراً من الجن } ، والنفر دون العشرة ، ويجمع على أنفار .

قال ابن عباس : كانوا سبعة ، منهم زوبعة .

والذي يجمع اختلاف الروايات ، أن قصة الجن كانت مرتين .

إحداهما : حين انصرف من الطائف ، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير .

فروى أن الجن كانت تسترق السمع ؛ فلما بعث الرسول ، حرست السماء ، ورمي الجن بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث .

وطافوا الأرض ، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة ، وهو قائم يصلي ؛ فاستمعوا لقراءته ، وهو لا يشعر ؛ فأنبأه الله باستماعهم .

{ والمرة الأخرى } : " أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال : «إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني » ، قالها ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري .

فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون ، خط لي خطاً وقال : «لا تخرج منه حتى أعود إليك » ، ثم افتتح القرآن .

وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : «هل رأيت شيئاً » ؟ قلت : نعم ، رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض ، فقال : «أولئك جن نصيبين » .

وكانوا اثني عشر ألفاً ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك " وفي آخر هذا الحديث قلت : " يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : «إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق " وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن ، والله أعلم بصحة ذلك .

{ فلما حضروه } : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب .

{ قالوا انصتوا } : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم .

وقرأ الجمهور : { فلما قضى } : مبنياً للمفعول ؛ وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنياً للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه .

وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد .

{ ولوا إلى قومهم منذرين } : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن .

قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم . انتهى .

وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب ، وخنافر وأمثالهما ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما .