المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ} (29)

وقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . و : { صرفنا } معناه : رددناهم عن حال ما ، يحتمل أنها الاستماع في السماء ، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون ، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء ، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة ، فضاقت الجن ذرعاً بذلك ، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك . واختلف الرواة بعد فقالت فرقة : جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر ، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله ، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ ، وهو يقرأ في صلاة الفجر{[10329]} .

وقالت فرقة : بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ، ووفد عليه أهل نصيبين منهم{[10330]} .

قال القاضي أبو محمد : والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم ، وهم المتفرقون من أجل الرجم ، وهذا هو قوله تعالى : { قل أوحي إلي }{[10331]} [ الجن : 1 ] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد ، وهو المذكور صرفه في هذه الآية{[10332]} . قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى ، أشعر به قبل وروده{[10333]} . وقال الحسن : لم يشعر .

واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك ، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر : كانوا تسعة فيهم زوبعة ، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إني خارج إلى وفد الجن ، فمن شاء يتبعني » ، فسكت أصحابه ، فقالها ثانية ، فسكتوا ، فقال عبد الله أنا أتبعك ، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون ، فأدار لي دائرة وقال لي : لا تخرج منها ، ثم ذهب عني ، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة . ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة ، فقال : يا عبد الله ، ما رأيت ؟ فأخبرته ، فقال : لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم ، قلت يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : إنهم تدارأوا في قتيل لهم ، فحكمت بالحق . واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود ، وروي عنه ما ذكرنا . وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزطِّ{[10334]} السود الطوال حين رآهم بالكوفة . وروي عنه أنه قال : ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها .

وقوله : { نفراً } يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط : القوم الذين لا أنثى فيهم .

وقوله تعالى : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس : «قُضِي » على بناء الفعل للمفعول . . وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز : «قضى » على بناء الفعل للفاعل ، أي قضى محمد القراءة .

وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة [ الرحمن ] فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذب ، ربنا لك الحمد ، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم .

قال القاضي أبو محمد : فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباهها{[10335]} صلى الله على محمد عبده ورسوله .


[10329]:روى البخاري، ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:(انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمرّ النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم{فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد}، فأنزل الله على نبيه{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} وهذا الحديث أورده السيوطي في (الدر المنثور)، وزاد نسبته إلى أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في الدلائل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، وإنما أتوه بنخلة فسمعوا القرآن. و"نخلة" موضع بين مكة والطائف، وإليها ينسب "بطن نخلة". فهذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف بأن الجن استمعوا إليه، ولم يؤمر بالقراءة عليهم.
[10330]:في مسلم من حديث علقمة، قال: قلت لعبد الله: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: ما كان منا معه أحد. فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا اغتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استطير، فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشرِّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن، فذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم- وهذا الحديث رواه أيضا أحمد في مسنده، وذكره السيوطي في (الدر المنثور)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والترمذي،- وروى معنى هذا الحديث معمّر عن قتادة، وفيه قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟....) إلخ الحديث. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر أن يقرأ على الجن القرآن، وكان يعرف أنهم سيحضرون لسماعه.
[10331]:من الآية (1) من سورة (الجن).
[10332]:فابن عطية يرى أن الجن الذين استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بطن نخلة حين تفرقوا من أجل الرجم بالشهب من السماء غير الجن الذين أمر بأن يقرأ عليهم في هذه الآية:{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن}.
[10333]:يعني بالوفد، فالضمير عائد على "وفد".
[10334]:الزط: جيل أسود من السند تنسب إليهم الثياب الزطية، وقيل: الزط: إعراب "جت" بالهندية، وهم جيل من أهل الهند.
[10335]:هذه أسماء بعض الجن الذين سمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.