معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

قوله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } ، أي : في مولاة الكفار ، فإنهم لن يعجزوا الله .

قوله تعالى : { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } ، وهم المنافقون .

قوله تعالى : { ومن الذين هادوا } ، يعني : اليهود .

قوله تعالى : { سماعون } ، أي : قوم سماعون .

قوله تعالى : { للكذب } ، أي قابلون للكذب ، كقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل الله ، وقيل : سماعون لأجل الكذب ، أي يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون : سمعنا منه كذا ، ولم يسمعوا ذلك منه .

قوله تعالى : { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } ، أي هم جواسيس ، يعني : بني قريظة { لقوم آخرين } وهم أهل خيبر . وذلك أن رجلاً وامرأةً من أشراف أهل خيبر زنيا ، وكانا محصنين ، وكان حدهما الرجم في التوراة ، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فقالوا : إن هذا الرجل بيثرب ليس في كتابه الرجم ، ولكنه الضرب ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه ، وصلح له ، فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطاً منهم مستخفين ، وقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما ؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه ، وأرسلوا معهم الزانيين ، فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير ، فقالوا لهم : إنكم جيران هذا الرجل ، ومعه في بلده ، وقد حدث فينا حدث فلان وفلانة ، قد فجرا وقد أحصنا ، فنحب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه فيه ، فقالت لهم قريظة والنضير : إذاً والله يأمركم بما تكرهون . ثم انطلق قوم ، منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وسعيد بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هل ترضون بقضائي ؟ قالوا : نعم . فنزل جبريل عليه السلام بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به . فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعرفون شاباً أمرد ، أعور ، يسكن فدك ، يقال له ابن صوريا ؟ قالوا : نعم ، قال : فأي رجل هو فيكم ؟ فقالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة . قال صلى الله عليه وسلم : فأرسلوا إليه ففعلوا ، فأتاهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم ، قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون ؟ قال : أتجعلونه بيني وبينكم ؟ قالوا : نعم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي نزل التوراة على موسى عليه السلام ، و أخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، والذي ظلل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المن و السلوى ، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت ، أو غيرت ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد ؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم . فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ ، قال : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا يرجم حتى يرجم فلان لابن عم الملك فقلنا : تعالوا نجتمع فلنصنع شيئاً دون الرجم يكون على الوضيع والشريف ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ، ثم يسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ، ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم ، فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ، ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم : إنه قد أنشدني بالتوراة ، ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته به ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده ، وقال : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها لآية الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا فيها آية الرجم ، قالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .

وقيل : سبب نزول هذه الآية القصاص ، وذلك أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة ، فقال بنو قريظة : يا محمد إخواننا بنو النضير ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلاً لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل ، وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا ، وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبد حرا منا ، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأول أصح . لأن الآية في الرجم . قوله : { ومن الذين هادوا سماعون للكذب } ، قيل : اللام بمعنى إلى ، وقيل : هي لام كي ، أي : يسمعون لكي يكذبوا عليك ، واللام في قوله : { لقوم } أي : لأجل قوم آخرين { لم يأتوك } وهم أهل خيبر .

قوله تعالى : { يحرفون الكلم } ، جمع كلمة .

قوله تعالى : { من بعد مواضعه } ، أي : من بعد وضعه موضعه ، وإنما ذكر الكناية رداً على لفظ الكلم .

قوله تعالى : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } . أي : إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا .

قوله تعالى : { وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته } ، كفره وضلالته ، قال الضحاك : هلاكه ، وقال قتاده : عذابه .

قوله تعالى : { فلن تملك له من الله شيئاً } ، فلن تقدر على دفع أمر الله فيه .

قوله تعالى : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } ، وفيه رد على من ينكر القدر . قوله تعالى : { لهم في الدنيا خزي } . أي : للمنافقين واليهود ، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم ، وخزي اليهود الجزية ، أو القتل ، والسبي ، أو النفي ، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون .

قوله تعالى : { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ، الخلود في النار .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ 41 - 44 } { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }

كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان ، ثم يرجع إلى الكفر ، فأرشده الله تعالى ، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء . فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير . إن حضروا لم ينفعوا ، وإن غابوا لم يفقدوا ، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم - فقال : { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } فإن الذين{[264]}  يؤسى ويحزن عليهم ، من كان معدودا من المؤمنين ، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا ، وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم ويرتدوا ، فإن الإيمان -إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره ، ولم يبغ به بدلا .

{ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم ، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي . وهؤلاء الرؤساء المتبعون { لَمْ يَأْتُوكَ } بل أعرضوا عنك ، وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن مواضعه ، أي : جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا قصدها ، لإضلال الخلق ولدفع الحق ، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال ، المتبعين للمحال ، الذين يأتون بكل كذب ، لا عقول لهم ولا همم . فلا تبال أيضا إذا لم يتبعوك ، لأنهم في غاية النقص ، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به .

{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي : هذا قولهم عند محاكمتهم إليك ، لا قصد لهم إلا اتباع الهوى .

يقول بعضهم لبعض : إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم ، فاقبلوا حكمه ، وإن لم يحكم لكم به ، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك ، وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس .

{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } كقوله تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي : فلذلك صدر منهم ما صدر . فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه ، وأنه إن حكم له رضي ، وإن لم يحكم له سخط ، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه ، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به ، وافق هواه أو خالفه ، فإنه من طهارة القلب ، ودل على أن طهارة القلب ، سبب لكل خير ، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد .

{ لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي : فضيحة وعار { وَلَهُم فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } هو : النار وسخط الجبار .


[264]:- كذا في ب، وفي أ: الذي.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

قرأ جمهور الناس «الكِلم » بفتح الكاف وكسر اللام ، وقرأ بعض الناس «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة ، وقوله تعالى : { يحرفون الكلم } صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة ، إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه . ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت ، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله ، وأما الكذب الذي لا ُيرَفد{[4546]} بمبدأ فقليل الأثر في النفس ، وقوله : { من بعد مواضعه } أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة والإشارة بهذا قيل :هي إلى التحميم والجلد في الزنا ، وقيل : هي إلى قبول الدية في أمر القتل ، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية ، ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } أي لا تتبع نفسك أمرهم ، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا «يطهر قلوبكم » وأن يكونوا مدنسين بالكفر ، ثم قرر تعالى «الخزي في الدنيا » . والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة ، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم .

وقوله : { سماعون للكذب } إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة ، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضاً عن بني إسرائيل وقوله تعالى : { أكالون للسحت } فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر . و «السحت » كل ما لا يحل كسبه من المال . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحْت » ساكنة الحاء خفيفة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحُت » مضمومة الحاء مثقلة . وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السِّحْت » بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى : { فيسحتكم بعذاب }{[4547]} ومن الرباعي قول الفرزدق :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إلا مسحتاً أو مجلف{[4548]}

والسُّحْت والسُّحُت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت ، والسحْت بفتح السين وسكون الحاء المصدر ، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيداً في قوله عز وجل { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }{[4549]} وكما سمي المرهون رهناً ، وهذا كثير .

قال القاضي أبو محمد : فسمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب وتستأصله النوب ، كما قال عليه السلام «من جمع مالاً من تهاوش أذهبه الله في نهابير »{[4550]} ، وقال مكي سمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليلا قليلاً ، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها ، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتاً لأنه يسحت مروءة آخذه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا أشبه ، أصل السحت كلب الجوع ، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يُلفى أبداً إلا جائعاً يذهب ما في معدته ، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبداً لا يشبع .

قال القاضي أبو محمد : وذلك بأن الرشوة تنسحت ، فالمعنى هو كما قدمناه ، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب ، وليس كلب الغرث اصلاً للسحت ، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا ، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب : مهر البغي سحت وعسب{[4551]} الفحل سحت وكسب الحجام{[4552]} سحت وثمن الكلب والخمر سحت ، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل ، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال : ذلك الكفر ، وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ، قيل يا رسول الله وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم »{[4553]} .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة ، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس ، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل ، وقوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم ، وقال عكرمة والحسن : هذا التخيير منسوخ بقوله { وأن احكم بينهم بما أنزل } [ المائدة : 49 ] وقال ابن عباس ومجاهد : نسخ من المائدة آيتان ، قوله تعالى : { ولا القلائد } [ المائدة : 2 ] نسختها آية السيف وقوله : { أو أعرض عنهم } نسختها { وأن احكم بينهما بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] .

قال القاضي أبو محمد : وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق ، وهذا هو الأظهر إن شاء الله ، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينقر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك ، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك ، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوي محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير ، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار ، قاله ابن القاسم في العتبية ، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم .

قال القاضي أبو محمد : وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النوازل عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف ، وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر ؟ وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته ؟ ومالك رحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى : { فإن جاؤوك } يعني أهل نازلة الزانيين .

قال القاضي أبو محمد : ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم .


[4546]:- يقال: رفده رفدا ورفادة: دعمه برفادة، وهي: الدعامة. والمراد: تقويته بمبدأ
[4547]:- من قوله تعالى في الآية (61) من سورة (طه): {لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى}.
[4548]:- البيت كاملا: وعض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف. قال في (اللسان): أسحت رأسه: استأصله حلقا، وأسحت ماله: استأصله وأفسده"، وروى البيت، ثم قال: ويروى: "إلا مسحت أو مجلف"، ومن رواه كذلك جعل معنى: "لم يدع": لم يتقارّ، ومن رواه: "إلا مسحتا" جعل: "لم يدع" بمعنى: لم يترك ورفع قوله: "أو مجلف" بإضمار، كأنه قال: أو مجلّف. قال الأزهري: وهذا هو قول الكسائي.
[4549]:- من الآية (95) من سورة (المائدة).
[4550]:- في (اللسان) وفي (النهاية): نهاوش بالنون- وهي المظالم من قولهم: نهشه إذا جهده فهو منهوش. وفي رواية: مهاوش بالميم- وهو: كل ما أصيب من غير حلة ولا يدرى ما وجهه. والهواش بالضم: ما جمع من مال حرام وحلال، كأنه جمع مهوش من الهوش: الجمع والخلط، والميم زائدة. والنهابر: المهالك والأمور المتبددة، وواحد النهابر: نهبور (النهاية) أما الحديث فقد جاء عنه في تمييز الطيب من الخبيث: مرسل ضعيف وفيه متروك، وقال التقي السبكي: لا يصح.
[4551]:- عُسَبْ الفحل- بضم العين وبفتحها- ماؤه- والمراد أن أخذ الأجر عليه حرام. (المعجم الوسيط).
[4552]:- الحجّام: صاحب حرفة الحجامة، وهي: امتصاص للدم من الجسم بالمحجم. وقد قال القرطبي: إن كسب الحجام حلال طيب.وروى حديث أنس: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاع من تمر..الخ.
[4553]:- أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه- عن ابن عمر. (الدر المنثور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

استئناف ابتدائي لتهوين تألّب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرّسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه ، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين . وافتتح الخطاب بأشرف الصّفات وهي صفة الرّسالة عن الله .

وسبب نزول هذه الآيات حدَث أثناء مدّة نزول هذه السّورة فعقّبت الآيات النّازلة قبلها بها . وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داوود ، والواحدي في « أسباب النّزول » ، والطبري في « تفسيره » ما محصّله : أنّ اليهود اختلفوا في حدّ الزاني ( حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فَدَك ) ، بَين أن يُرجم وبين أن يجلد ويحمَّم اختلافاً ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكِّموا رسول الله في شأن ذلك ، وقالوا : إنْ حكم بالتّحميم قبِلْنا حكمَه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه ، وأنّ رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة : " ما تجدون في التّوراة على من زنى إذا أحْصن " ، قالوا : يحمّم ويُجلد ويطاف به ، وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كذّبهم وأعلمهم بأنّ حكم التّوراة هو الرّجم على من أحصَن ، فأنكروا ، فأمر بالتّوراة أن تنشر ( أي تفتَح طيّاتها وكانوا يلفّونها على عود بشكل اصطواني ) وجعَل بعضُهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم ( أي يقرؤها للّذين يفهمونها ) فقال له رسول الله : ارفع يدك فرفع يده فإذا تحتها آية الرّجم ، فقال رسول الله : " لأكونَن أوّل من أحيَى حُكم التّوراة " فحكم بأنّ يُرجم الرجل والمرأةُ . وفي روايات أبي داوود أنّ قوله تعالى : { يأيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } نزل في شأن ذلك ، وكذلك روى الواحدي والطبري .

ولم يذكروا شيئاً يدلّ على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله : { من الّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } . ولعلّ المنافقين ممّن يبطنون اليهوديّة كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية ، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التّوراة حكم رجم الزّاني فيتّخذوا ذلك عذراً لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلّة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .

وأحسب أنّ التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنّهم يصدّقون برسالته ولا لأنّهم يعُدّون حكمهُ ترجيحاً في اختلافهم ولكن لأنّهم يَعدّونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها . ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحْبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عَليهم من غير أهل ملّتهم . فلمّا اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأنّ حكم وليّ الأمر مطاع عندهم . فحكَم رسول الله حكماً جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خَطَئهم في العدول عن حكم كتابهم ، ولذلك سمّاه الله تعالى القسط في قوله : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } .

ويحتمل أن يكون ناشئاً عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويقول : إنّه رسول للأميّين خاصّة . وهؤلاء هم اليهود العيسوية ، فيكون حكمه مؤيّداً لهم ، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة ، ويؤيّده ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة أنّ يهودياً زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض : اذهبُوا بنا إلى محمّد فإنّه بُعث بالتّخفيف ، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قِبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فُتْيَا نبيء من أنبيائك ، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر . ويؤيّده ما رواه أبو داوود والترمذي أنّهم قالوا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفاً عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم . ولعلّ ذلك مباح في شرعهم ، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتّى جَاء المدارس وهو بيت تعليم اليهود وحاجَّهُم في حكم الرّجم ، وأجابه حَبران منهم يُدعيان بابْنَي صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم ، في التّوراة ؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيء صلى الله عليه وسلم قصداً لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي ، وكان حكم الرجم عندهم مكتوماً لا يعلمه إلاّ خاصّة أحبارهم ، ومنسياً لا يذكر بين علمائهم ، فلمّا حَكم عليهم به بهتوا ، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم . ففي « صحيح البخاري » أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنَا صوريا بها . وأيّامّا كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذٍ وضعف ثقتهم بعلومهم .

ومعنى { لا يحزنك الّذين يسارعون } نهيه عن أن يحصل له إحزانٌ مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر . والإحزانِ فِعل الّذين يسارعون في الكفر ، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه ، أي لا تجعلْهم يحْزنونك ، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يُدخِل الحزن على نفسك . وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكِنائي . ونظيره قولهم : لا أعرفَنَّك تفعل كذا ، أي لا تفعل حتّى أعرفَه . وقولهم : لا أُلفينّك هَهنا ، ولاَ أرَيَنّك هنا .

وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان ، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في العرف ؛ ولذلك فهو من المجاز الّذي ليست له حقيقة .

وأمّا كون الله هو موجد الأشياء كُلّها فذلك ليس ممّا تترتّب عليه حقيقة ومجاز ؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازاً عقلياً ، وليس كذلك ، وهذا ممّا يغلط فيه كثير من النّاظرين في تعيين حقيقة عقليّة لبعض موارد المجاز العقلي . ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في « دلائل الإعجاز » « اعلم أنّه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التّقدير إذا أنتَ نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنّك لا تجد في قولك : أقدمَني بَلَدَك حقّ لي على فلان ، فاعلاً سوى الحقّ » ، وكذلك في قوله :

وصَيّرني هَوَاكِ وبِي *** لِحَيْني يُضرب المثَل

و يزيدك وجهه حُسناً .

أنْ تزعم أن له فاعلاً قد نُقل عنه الفعل فجُعل للهوى وللوجه » اهـ . ولقد وَهِمَ الإمام الرازي في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشّواهد الدّالة على أنّ أفعالاً قد أسندت لفاعل مجازي مع أنّ فاعلها الحقيقي هو الله تعالى ، فإنّ الشّيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنّه يبحث عن الفاعل الّذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف النّاس من مؤمنين وكافرين . ويدلّ لذلك قوله : « إذا أنتَ نقلت الفعل إليه » أي أسندتَه إليه .

ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كلّ فرصة ، فشبّه إظهاره المتكرّرُ بإسراع الماشي إلى الشيء ، كما يقال : أسرع إليه الشيب ، وقوله : إذا نهي السفيه جرى إليه . وعدّي بفي الدالّة على الظرفية للدلالة على أنّ الإسراع مجاز بمعنى التوغّل ، فيكون ( في ) قرينة المجاز ، كقولهم : أسْرع الفساد في الشيء ، وأسْرع الشيب في رأس فلان . فجعل الكفر بمنزلة الظّرف وجعل تخبّطهم فيه وشدّة ملابستهم إيّاه بمنزلة جولان الشّيء في الظرف جولاناً بنشاط وسرعة . ونظيره قوله { يسارعون في الإثم } [ المائدة : 62 ] ، وقوله : { نسارع لهم في الخيرات } المؤمنون : 56 ) ، { أولئك يسارعون في الخيرات } [ المؤمنون : 61 ] . فهي استعارة متكرّرة في القرآن وكلام العرب . وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله : { يسارعون فيهم } [ المائدة : 52 ] .

وقوله : { من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم } إلخ بيان للّذين يسارعون في الكفر . والّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون .

وقوله : { ومن الّذين هادوا } معطوف على قوله : { من الّذين قالوا آمنّا } والوقفُ على قوله : { ومن الّذين هادوا } .