اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

قد تقدم أنَّ " يَحْزُن " يُقْرأ{[11764]} بفتح الياءِ وضمِّها وأنهما لُغتانِ ، وهل هما بمعنًى ، أو بينهما فَرْقٌ .

والنَّهْيُ للنبيّ في الظاهرِ ، وهو مِنْ بابِ قوله : " لا أرَيَنَّك هاهُنَا " ، أي : لا تَتَعَاطَ أسباباً يحصلُ لك بها حُزْنٌ من جهتِهم ، وتقدم لك تحقيقُ ذلك مِرَاراً .

وقولُ أبي البقاءِ{[11765]} في " يَحْزُنْكَ " : " والجيدُ فتحُ الياءِ وضمُّ الزَّاي ، ويُقْرأ بِضَمِّ الياءِ ، وكسر الزَّاي مِنْ : أحْزَنَنِي وهي لغةٌ " - لَيْسَ بجيِّدٍ ؛ لأنها قراءةٌ متواترةٌ ، وقد تقدَّم دليلُها في آل عمران [ الآية 76 ] . و " يسارعون " من المسارعة ، و " فِي الكفر " متعلقٌ بالفعل قبلهُ ، وقد تقدم نظيرُها في آل عمران . واعلمْ أنه تعالى خاطب النبيَّ عليه الصلاةُ والسلام بقوله تعالى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ } في مواضِعَ كثيرةٍ ، ولم يخاطِبْهُ بقوله : " يا أيُّهَا الرسولُ " إلاّ في موضِعَيْنِ في هذه السورة .

أحدهما : هاهُنا ، والثانية : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ } [ المائدة : 67 ] وهذا خطابُ تشريفٍ وتعظيمٍ .

واعلمْ أنه تعالى لما بيَّن بعضَ التكاليف والشرائعِ ، وكان قد علم من بعضِ النَّاسِ المسارعةَ إلى الكفرِ لا جَرَمَ صبَّر رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على تَحَمُّلِ ذلك ، وأمرهُ بأنْ لا يَحْزنَ لأجلِ ذلك أيْ : لا تَهْتَمَّ ولا تُبَالِ بمسارعةِ المنافقينَ في الكفرانِ في موالاةِ الكُفارِ ، فإنهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّه شيئاً .

قوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا } يجوزُ أنْ يكُون [ حالاً من ]{[11766]} الفاعل في " يسارِعُون " أيْ : يُسارعون حال{[11767]} كونهم بعضَ الذينَ قالُوا ، ويجوزُ أنْ يكون حالاً من نفسِ الموصُول ، وهو قريبٌ من مَعْنى الأولِ ، ويجُوزُ أن يكُونَ " منْ " بياناً لجنسِ الموصُولِ الأولِ ، وكذلك " من " الثانية ، فتكون تَبْييناً وتَقْسِيماً للذين يُسارعون في الكُفْرِ ، ويكون " سمَّاعُون " على هذا خَبَر مُبْتَدأ محذُوفٍ و " آمنَّا " منصوبٌ ب " قالوا " [ و " أفْواهِهمْ " متعلقٌ ب " قالوا " لا ب " آمَنَّا " ]{[11768]} بمعنى أنه لم يُجاوزْ قولهم أفْواهَهُمْ ، إنَّما نَطَقُوا بِهِ غير مُعْتقدِين له بقلوبهم . وقوله : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُم } جملةٌ حاليَّةٌ .

قال بعضُ المفسِّرين : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، والتقديرُ : مِنَ الذينَ قالُوا : آمَّنا بأفْواهِهمْ ولَمْ تُؤمِن قُلُوبُهُم ، وهؤلاءِ هُم المنافِقُونَ .

قوله تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ } فيه وجهانِ :

أحدهما : ما تقدَّم ، وهو أنْ يكونَ مَعْطُوفاً على { مِنَ الذين قالوا } بَيَاناً وتَقْسِيماً .

والثاني : أن يكونَ خبراً مُقَدماً ، و " سمَّاعُونَ " مُبْتدأ ، والتقديرُ : { ومِنَ الذين هادُوا قومٌ سمَّاعُون } ، فتكونُ جملةً مستأنفة ، إلاَّ أن الوجه الأول مُرجَّح بقراءةِ الضَّحَّاكِ : " سمَّاعِينَ " على الذَّمِّ بِفِعْلٍ محذوفٍ ، فهذا يدلُّ على أن الكلام لَيْسَ جُملةً مُسْتقلةً ، بل قوله : { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا } عطفٌ على { مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ } .

وقوله " سماعُون " مِثالُ مُبالغَةٍ ، و " للْكَذِب " فيهِ وجهانِ :

أحدهما : أنَّ " اللامَ " زائدةٌ ، و " الكَذِبِ " هو المفعولُ ، أي : سمَّاعون الكذبَ ، وزيادةُ اللام هُنا مُطَّردة لكوْنِ العامل فَرْعاً ، فقوي باللام ، ومثلُه { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] .

والثاني : أنَّها على بابها مِنَ التعليلِ ، ويكونُ مفعولُ " سمَّاعُونَ " مَحْذُوفاً ، أيْ : سَمَّاعُون أخْبَارَكُم وأحَادِيثَكُمْ لِيَكْذِبُوا فيها بالزيادَةِ والنَّقْصِ والتَّبْديلِ ، بأنْ يُرْجفُوا بِقَتْلِ المؤمنينِ في السَّرَايَا كما نقل من مخازيهم .

وقوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ } يجوزُ أنْ تكون هذه تكْرِيراً للأولى ، فعلى هذا يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله : " لِقَومٍ " بنَفْس الكذبِ ، أيْ : يَسْمَعُونَ ليَكْذبُوا لأجْل قوْم [ ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بنفس " سمَّاعون " أي : سمَّاعُونَ لأجل قومٍ لم يأتوك ؛ ]{[11769]} لأنهم لبُغضِهِمْ لا يقربُونَ مَجْلِسكَ ، وهم اليهودُ ، و " لم يأتُوك " في محَلِّ جرٍّ ؛ لأنَّها صفةٌ ل " قوم " .

فصل

ذكر الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ هاهُنَا وَجْهَيْنِ{[11770]} .

الأول : أنَّ الكلامَ إنَّما يتمُّ عند قوله " ومِنَ الَّذِينَ " ثُم يُبْتَدأ الكلامُ من قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } [ وتقديرُ الكلامِ : لا يحْزُنْكَ الذين يُسارعُونَ في الكفر من المنافِقِينَ ومن اليهُود ، ثم بعد ذلك وصفَ الكل بكونهم سمَّاعين لقوم آخرين ]{[11771]} .

الوجهُ الثاني : أن الكلام تَمَّ عند قوله : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ثم ابْتَدَأ فقال : { وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وعلى هذا التقدير : فقوله : " سمَّاعُون " صفةُ محذوفٍ والتقديرُ : ومن الذين هادُوا قومٌ سماعُون ، وقيل : خبرُ مُبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : هُم سمَّاعُونَ .

وحَكَى الزَّجَّاجُ في قوله تعالى " سمَّاعُون لِلْكذبِ " وجهين :

الأوَّلُ : معناه : قَائِلُون لِلْكَذبِ ، فالسمعُ يُستعملُ ، والمراد منه القبولُ كما تقول : لا تَسْمعْ من فلانٍ ، أيْ : لا تقبَلْ مِنْه ، ومِنه : " سَمِعَ الله لِمَن حمدَهُ " ، وذلك الكذبُ الذي يُقْبَلُونَهُ هو ما يقوله رؤساؤهُمْ من الأكاذِيبِ في دينِ الله تعالى ، وفي تحريفِ التوراةِ ، وفي الطعنِ في سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .

والوجه الثَّانِي : أنَّ المرادَ مِنْ قوله " سَمَّاعُون " نَفْسُ السَّمَاعِ ، واللامُ في قوله " لِلْكَذِبِ " لامُ كَيْ أي : يَسْمعُون مِنْك لِكَيْ يَكذِبُوا علَيْكَ ، وذلك أنَّهُم كانوا يَسْمَعُون مِنَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثُم يَخْرُجون ويقُولونَ : سمعْنَا منه كذا وكذا ، ولم يَسْتَمِعُوا ذلك منه ، وأمَّا { لقوم آخرينَ لم يأتوكَ } والمعنى أنهم{[11772]} أعْيُنٌ وجواسِيسُ لِقَوْمٍ آخرينِ لَمْ يأتُوك ، ولم يحضرُوا عندَك لِيُبَلِّغُوا إليهم أخبارَك ، وهم بَنُو قُرَيْظَةَ والنَّضِير .

قوله تعالى : " يُحَرِّفُونَ " يجوزُ أن يكونَ صِفَة لِ " سَمَّاعُون " ، أيْ : سمَّاعون مُحَرِّفُونَ ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ في " سماعون " ويجوزُ أن يكون مُسْتأنَفاً لا مَحَلَّ لَهُ .

ويجوزُ أنْ يكونَ خَبَرَ مُبْتَدأ مَحْذُوفٍ أيْ : هُمْ مُحَرِّفُونَ .

ويجُوز أن يكُونَ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةً ل " قَوْمٍ " ، أيْ : لقوْمٍ مُحَرِّفِينَ .

و { مِن بَعْدِ مواضِعِهِ } تقدم في النِّساءِ [ الآية 46 ] .

و " يَقُولُون " ك " يُحَرِّفُونَ " ويجوزُ أنْ يكُونَ حالاً من ضمير " يُحرِّفُونَ " ، والجملةُ شَرْطِيَّةٌ مِنْ قوله : " إنْ أوتيتُمْ " [ مفعولة بالقول ، و " هذا " مفعول ثان ل " أوتيتم " ]{[11773]} فالأول قائمُ مقامَ الفاعل ، و " الفاء " جوابُ الشرطِ ، وهي واجِبة لعدمِ صلاحيَّةِ الجزاءِ لأنْ يكونَ شَرْطاً ، وكذلك الجملة من قوله : { وإن لم تؤتوه } .

فصل في معنى الآية

ومعنى { يُحرِّفون الكلم من بعد مواضعه } أي : من بعد أن وضعه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - في مواضعه ، أي فرض دينهُ ، وأحلَّ حلالهُ وحرَّم حرامهُ . قال المفسرون{[11774]} : " إِنَّ رجُلاً وامرأةً من أشراف خيبر زنيا ، وكان حدُّ الزِّنا في التوراة الرَّجم ، فكرهت اليهودُ رجمهما لشرفهما ، فأرسلوا قوماً إلى رسول اللَّهِ - صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وسلم - عن حُكمه في الزَّانيين إذا أُحصنا وقالوا : إن أمركم بالجلد فاقبلوا ، وإن أمركُم بالرَّجم فلا تقبلوا . فلمّا سألوا الرسول - عليه الصلاةُ والسلامُ - عن ذلك فنزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخُذُوا به ، فقال جبريلُ : اجعل بينك وبينهم ابن صوريَّا ووصفه له . فقال لهم رسولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وآله وسلم - : [ هل ]{[11775]} تعرفون شاباً أمردَ أبيض أَعوَرَ يسكن فدك يقال له : ابنُ صوريَّا ؟ .

قالُوا : نَعَمْ ، قال : فأيُّ رَجُلٍ هو فيكُم قالوا : هو أعْلَمُ يَهُودِيٍّ بَقِيَ على وجه الأرضِ بما أنْزَل الله على موسى بن عمران في التَّوْرَاةِ قال : فأرْسلوا إليه . ففعلُوا فأتاهُمْ ، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أنْتَ ابنُ صُوريَّا قال : نَعَمْ ، فقال له عليه الصلاة والسلامُ : " أنْشُدُك الله الذي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الذي أنْزَل التوراةَ على مُوسَى ، وأخرجكم من مِصْرَ ، وفلق لكم البحرَ ، وأنجاكُمْ ، وأغْرقَ آل فِرْعوْنَ ، وظلل عليكم الغمامَ ، وأنزلَ عليكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى ، ورفعَ فوْقَكُم الطُّور ، وأنْزَلَ عَلَيْكُم كتابَهُ فيه حلالُه وحرامُه هل تجدُون في كتابِكُم الرَّجْمَ على مَنْ أحْصِن .

قال ابن صُوريّا : نَعَمْ ، والذي ذَكَّرْتَنِي به لَوْلاَ خشيةُ أنْ تحرقنِي التوراةُ إنْ كذبتُ أو غيَّرت [ أو بدلتُ ]{[11776]} ما اعترفتُ لك ، ولكن كيفَ هي في كتابكم يا مُحمدُ ؟ قال : إذا شَهِدَ أربعة رَهْطٍ عُدُول ، أنَّهُ قد أدْخَلَ فيها ذكرهُ كما يدخُلُ المِيلُ في المُكْحُلَةِ وجب عليه الرَّجْمُ ، فقال ابنُ صوريَّا : والَّذِي أنزلَ التوراةَ على مُوسى هكذا أنزلَ الله التوراة على موسى فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : [ فماذا كان ]{[11777]} أوَّل ما تَرَخّصْتُم به أمر الله عزَّ وجلَّ قال : كُنَّا إذا أخذنَا الشريفَ تركْنَاهُ ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدَّ : فكثُرَ الزِّنَا في أشْرَافِنَا حتى زَنَى ابنُ عَمِّ [ مَلِكٍ ] لنا فلم نَرْجُمْهُ ، ثُم زَنَا رجلٌ آخرُ في أسوةٍ من النَّاس ، فأراد ذلك الملكُ رَجْمَه ، فقام دُونَه قَوْمُه ، فقالوا : واللَّه لا نرجُمُه حتى نرجُم فُلاناً ابن عَمِّ الملكِ . فقُلْنا : تعالَوْا نَجْتَمِعُ فنضعَ شَيئاً دون الرجمِ يكونُ على الشَّريفِ والوضيعِ ، فوضعْنَا الجلْدَ والتَّحْميمَ ؛ وهو أنْ يُجْلَدَا أربعينَ جلْدةً بِحَبلٍ مَطْلِيٍّ بالقارِ ، ثم يُسَوَّد وُجُوهُهُمَا ، ثُمَّ يُحملا على حِمَاريْنِ وجوهُهُما من قبلِ دُبر الحمار ، ويطافُ بِهَما ، فجعلوا هذا مكان الرجم . فقال اليهودُ [ لابن صوريا ]{[11778]} : ما أسرع ما أخبرتَهُ به ، وما [ كُنتَ لما أثْنَيْنَا ]{[11779]} عليك بأهل ، ولكِنَّكَ كُنْتَ غائباً ، فكرهنا أن نَغْتَابَك ، فقال لهم ابن صوريا : إنَّه قد أنْشَدَني بالتوراةِ ، ولولا خشيةُ التوراةِ أنْ تُهلكني لما أخبرته ، فأمر بهما النبيُّ - صلى الله عليه وعلى وآله وسلم - فَرُجِمَا عند بابِ المسجدِ ، وقال : اللهم ، إنَّي أوَّلُ مَنْ أحْيَا أمرَكَ إذْ أمَاتُوهُ ، فأنزل الله عزَّ وجل : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } .

فقولُه تعالى : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } جمع كَلِمَةٍ ، وذكر الكِنايةَ رَدّاً على لَفظها الكلم { مِن بَعْدِ مواضِعِهِ } أيْ : وضعُوا الجلدَ مكان الرجمِ .

وقيل : سببُ نزول هذه الآيةِ : أنَّ بَنِي النضير كان لهم فضلٌ على بَنِي قريظةَ ، فقال بَنُو قريظةَ : يا محمدُ إخْوَانُنا بنو النضير وأبُونا واحدٌ وديننا واحدٌ ونبينا واحدٌ ، وإذا قتلُوا مِنَّا قتيلاً لم يقيدونَا ، وأعطونا ديتَهُ سَبْعينَ وَسْقاً من تَمْرٍ . وإذا قتلنا منهم قتلُوا القاتلَ ، وأخذوا مِنّا الضِّعْفَ مائةً وأربعين وسْقاً مِنْ تَمْرٍ . وإنْ كان القتيلُ امرأةً قتلُوا بها الرجُلَ مِنَّا ، وبالرجل منهم الرجليْن مِنّا ، وبالعبد حُراً مِنَّا ، وجراحاتُهم على الضَّعْفِ مِنْ جراحاتِنَا فاقْضِ بَيْننا وبينهم ، فأنزل الله هذه الآية ، والأولُ أصحُ لأنَّ الآية في الرَّجْمِ .

فصل

قال القرطبي{[11780]} : الجمهورُ على ردِّ شهادةِ الذِّمِّيِّ ؛ لأنَّهُ ليس مِنْ أهلِهَا فلا تقبلُ على مسلم ، ولا على كافرٍ وقبِلَ شهادتهُم جماعة مِنَ الناسِ إذا لم يُوجدْ مسلمٌ ، على ما يأتي في آخر السورة{[11781]} .

فإنْ قِيل : قد حَكَمَ بشهادَتِهمْ ورجمَ الزَّانِيَيْنِ .

فالجوابُ : أنَّهُ إنَّما تقدم عليهم بما علم أنَّهُ حكمُ التَّوْراةِ ، وألزمهُم العملَ بِهِ على نحو ما عملت به بَنُو إسرائيلَ ؛ إلْزَاماً للحجةِ عليهم ، وإظْهَاراً لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفذاً لا حَاكِماً .

قوله تعالى : { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } أيْ : إنْ أمرَكُم بحدِّ الجلدِ فاقبلوا ، وإنْ أمركُم بالرجم فلا تقبلُوا .

قوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } " مَنْ " مفعولٌ مقدمٌ ، وهي شرطيةٌ .

وقوله : " فَلَنْ تَمْلِكَ " جوابُه ، و " الفاء " أيضاً واجبةٌ لما تقدم .

و " شيئاً " مفعولٌ به ، أو مصدرٌ ، و " مِنَ اللَّهِ " متعلقٌ ب " تَمْلكَ " .

وقيل : هو حالٌ من " شَيْئاً " ؛ لأنَّهُ صفتُه في الأصْلِ .

فصل

قوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } أي : كفْرَهُ وضلالَهُ ، وقال الضحاكُ : هلاكَهُ{[11782]} .

وقال قتادةُ : عذابَهُ{[11783]} .

ولمّا كان لفظُ الفتنةِ مُحتملٌ لجميعِ أنواعِ المفاسدِ ، وكان هذا اللفظُ مذكُوراً عُقَيْبَ أنْواع كفرِهم التي شرحَها الله تعالى وجب أن يكُون المرادُ من هذه الفتنةِ تلك الكُفْرياتِ المذكُورة ، ويكونُ المعنى : ومَنْ يُرد الله كفره وضلالتهُ ، فلَنْ يقدِرَ أحدٌ على دفع ذلك عنه ، ثُمَّ أكَّدَ ذلك بقوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } .

قال أهلُ السُّنَّةِ : دلّت هذه الآيةُ على أن الله تعالى غيرَ مُريدِ إسلامِ الكافرِ ، وأنَّه لم يُطهرْ قلبَهُ مِنَ الشِّرْكِ ، ولوْ فعل ذلك لآمن .

وذكر المعتزلةُ في تعبير هذه الفِتْنَة وجوهاً :

أحدها : أنَّ الفتنة هي العذابُ . قال تعالى : { عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أيْ : يُعَذَّبُونَ ، فالمرادُ هنا : يُريد عذابَهُ لِكُفْره .

وثانيها : ومَنْ يُردِ الله فضيحتَهُ .

وثالثها : المرادُ الحكمُ بضلالهِ ، وتَسْمِيتِهِ ضَالاًّ .

ورابعها : الفتنَةُ : الاختبارُ ؛ والمعنى : مَنْ يُردِ الله اختبارهُ [ فِيمَا يَبْتَليه ]{[11784]} من التكاليف فيتركُهَا ولا يقومُ بأدائِها ، فلَنْ تملِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثواباً ولا نفعاً .

وأمَّا قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } فذكروا فيه وجوهاً :

أحدها : لم يردِ الله أنْ يهدي قلوبَهُم بالألطافِ ؛ [ لأنه تعالى عَلِم أنه لا فائدةَ في تلكَ الألطافِ لأنَّها لا تنجحُ في قُلُوبِهم ]{[11785]} .

ثانيها : لم يُرد الله أن يطهرَ قلوبَهُم مِنَ الحَرَجِ والغَمِّ والوحشةِ الدَّالةِ على كُفْرِهم .

وثالثها : أنَّ هذه الاستعارةَ [ عبارةٌ ]{[11786]} عَنْ سُقوطِ وقْعَهِ عند الله ، وأنَّه غيرُ مُلتفتٍ إلَيْهِ بسببِ قُبْحِ أفعالِهِ ، وقد تقدم [ الكلامُ ]{[11787]} على هذه الوجوه .

قوله تعالى : " أولَئِكَ " : مبتدأ ، و { لَمْ يُرِدِ اللَّهُ } جملةٌ فعليةٌ خبرُهُ .

ثُم قال تعالى : { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } وخزيُ المُنافقينَ الفَضيحةُ ، وهَتْكُ السَّتْرِ بإظْهَارِ نفاقِهمْ ، وخَوفِهم مِن القتْلِ ، وخزيُ اليهودِ : الجزْيَةُ ، وفَضِيحتُهم ، وظهورُ كذبِهِمْ ، في كِتْمانِ نَصِّ الله تعالى في إيجابِ الرَّجْمِ .

قوله تعالى { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو الخلودُ في النَّارِ .


[11764]:ينظر: المحرر الوجيز 2/190، والبحر المحيط 3/499، والدر المصون 2/526.
[11765]:ينظر: الإملاء 1/215.
[11766]:سقط في أ.
[11767]:في أ: رجال.
[11768]:سقط في أ.
[11769]:سقط في أ.
[11770]:ينظر: الرازي 11/183.
[11771]:سقط في أ.
[11772]:في أ: لأنهم.
[11773]:سقط في أ.
[11774]:ينظر: تفسير البغوي 2/37.
[11775]:سقط في أ.
[11776]:سقط في أ.
[11777]:في أ: فإنه.
[11778]:سقط في أ.
[11779]:في أ: وما كنت لما أتينا.
[11780]:ينظر: تفسير القرطبي 6/117.
[11781]:في ب: البقرة.
[11782]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 11/184.
[11783]:انظر المصدر السابق.
[11784]:في أ: بالتسلية.
[11785]:سقط في أ.
[11786]:سقط في أ.
[11787]:سقط في أ.